كثيرًا ما يثور التساؤل بشأن طبيعة المحاماة.. فهل تعد المحاماة علمًا أم فنًا؟ فالعلم يتطلب الاعتماد على قواعد أصولية وأسس منهجية، أما الفن فهو يعتمد في جانبه الأكبر على المواهب الطبيعية التي يمنحها الله للأفراد بحيث يختلفون فيما بينهم ومنها موهبة المرافعة أمام المحاكم. والحقيقة أن المرافعة أمام المحاكم خليط بين هذا وذاك، فهي فن في المقام الأول وتعتمد على الموهبة الطبيعية ثم هي لا تخلو أبدًا من أن تكون علمًا يقوم الباحث بتعليم نفسه بنفسه أسلوب المرافعة وحفظ بعض الأقوال للاستشهاد بها في المحكمة عند بداية انطلاقه.
وسوف نتناول جميع ما يتعلق بفن المرافعة من خلال هذا المقال، وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية:
أولًا: المحاماة وصلتها بالمرافعة
ثانيًا: مفهوم المرافعة
ثالثًا: تاريخ المرافعة فن الخطابة
رابعًا: مبادئ في فن المرافعة
خامسًا: الشروط الواجب توافرها في المرافعة
سادسًا: عناصر نجاح المرافعة القضائية
سابعًا: عناصر المرافعة
ثامنًا: أساليب المرافعة
تاسعًا: أحكام المرافعة
عاشرًا: مقومات المترافع الناجح
إحدى عشر: كيفية التغلب على القلق عند المرافعة
ونقدم شرحًا تفصيليًا لكل عنصر من العناصر الرئيسية السابقة فيما يلي:
▪️أولًا: المحاماة وصلتها بالمرافعة
يعكف المحامي على القضية الموكل فيها باسطًا أمام القاضي ما تثيره من مشاكل قانونية وآراء الفقه بشأنها عارضًا لحجج كل طرف وأسانيده ليسهل على القاضي مهمته وينير طريقه وييسر له الوصول إلى الحقيقة. وكم من قضايا لم تتضح خفاياها إلا بعد سماع مرافعة المحامي، وما أكثر الأمور التي لا يكفي فيها مجرد الاطلاع على ملف القضية لكشف غموضها فيتبدد هذا الغموض بإلقاء المحامي الضوء على ظروف القضية وملابستها وكم من القضايا تعثرت أمام القضاء لصعوبة ترجيح حق على آخر فأدى نقاش المحامين وتفنيد كل منهم لرأي الآخر إلى إظهار وجه الحقيقة فيها.
إن المرافعة أمام المحاكم -وخاصةً الجنائية- فن رفيع، بل وتعتبر قمة الفنون على الإطلاق، وهذا الفن يحتاج للموهبة.
ولذلك يجب أن يكون المحامي فصيح اللسان بالغ الأثر بكلامه متلاعبًا بالعقول والقلوب، فهو سيد الدعوى بلا منازع ويتسم بروح العدالة ويعتبر شمعة تحترق لكي يضيء مصابيح العدالة وهو ضحية العدالة بلا شك وكلامه يتصف بجمال الأسلوب وعمق الفكرة وتأثير البلاغة، وسلاسة التعبير وقوة الأسلوب وجزالته، ويجب ألا تغيب عنه عبارة ولا يتعثر له لسان.
كما يجب أن يتصف بحلاوة اللسان وسحر البيان والبلاغة وقوة السحر ويجب أن يتعلم كيف يعالج قاضيه ويلعب على أوتار قلبه، وأن يكون مرتجلًا ملتهبًا معتمدًا على عدة سليمة وليس عدة فاسدة.
ثانيًا: مفهوم المرافعة
إن المرافعة في ساحة القضاء معركة وإن شئنا الدقة فلنقل إنها مباراة تشرف عليها روح رياضية عالية يشترط فيها الصدق، والالتجاء إلى سلاح شريف لا زائف ولا مسموم، مباراة أسلحتها الوحيدة المعتمدة قوة البيان وثبات الجنان وقرع الحجة بالحجة، والتدليل المنطقي والاستعانة -ولكن بقدر- بتأثير العاطفة واستدرار رحمة القاضي، أو استثارة غضبه لتحقيق واجبه كمحام الهيئة الاجتماعية يدافع عنها من عدوان المعتدين.
وهذه المباراة التي يتولى إدارتها دائمًا قاض واحد أو أكثر، تجري دائمًا في قاعات متشابهة الوضع وبتنسيق يكاد يكون واحدًا ، فالحكم يجلس في رأس القاعة، وتشرف عليه تلك الحكمة الخالدة -التي تبلى الدهور وهي خالدة لا تبلى، وتتغير المبادئ وهي ثابتة، والتي تقرر أن “العدل أساس الملك”.
فإذا بدأت المباراة وجب على كل من المتبارين أن يبذل قصارى جهده ليقنع الحكم بحقه، وليعقد له لواء النصر ولكن المباراة في سبيل العدل لا يُستعمل فيها إلا سلاح الحق والصدق.
فالخاسر في هذه المباراة والرابح سواء، كل منهما سعى لنصرة الحق بها وفاز، فالمرافعة هي عملية ذهنية سريعة أي عملية عقلية محضة ولذلك يسهر المحامي الليالي الطوال يسأل أوراق التحقيق أسرارها ويستلهمها خباياها، ويستنبط الحجج التي أعدها لصالح موكله، ويعد لليوم الموعود ما استطاع من عدة وبيان، ما بين شهود ينفي بهم الاتهام، وأسئلة محرجة يقضي بها على شهود الإثبات، ومستندات قاطعة في الدعوى.
وتعتمد هذه المباراة على رصيد كبير لا يُقدر بالنقود أو الذهب ولكنه رصيد الكلمات، فالكلمات في ترتيبها الطبيعي هي مادة القانون الخام، وهي تمتاز بسحرها الخاص حيث إن لها صوتًا كما أن لها لونًا ومعنى، ومن ثَم فإن اختيارها في تركيب سليم يزيدها سحرًا وقوة فعندما نضم بعض الكلمات إلى بعضها البعض نجد أن الحياة قد دبت في أوصالها بطريقة لا ندريها وكأننا أمام شعر أو أغنية.
ويجب التنويه إلى أن السلاح البتار للمرافعة هو الإخلاص في عرض الوقائع ومناقشة الأدلة وليس مجرد إخفاء نقاط في القضية التي تحتمل جانبين؛ أحدهما: مظلم والآخر: مضيء حتى لو تغلب الجانب المظلم على الآخر.
ومن هنا فإن الكلام عن وقائع غير واضحة يجعلها غير مفهومة لكن الحديث الواضح عن حقائق غامضة يُضفي بصيصًا من النور وكثيرًا من الضوء الساطع. وبالتالي قد يترافع أحد المحامين ساعتين ويكون مقلًا كما قد يترافع غيره خمس دقائق ويصبح مملًا ولا يكون ذلك إلا بالتركيز على الجانب المظلم من القضية أكثر من الجانب المضيء.
ثالثًا: تاريخ المرافعة فن الخطابة
فن الخطابة قديمًا بما يرادف فن المرافعة الآن معروفًا منذ قديم الأزل، وقد ازدهرت المرافعة في الحضارة اليونانية على إثر انتشار التعليم وازدهار الثقافة وكثرة النزاعات والتقاضي أمام المحاكم الشعبية، ومن ثَم جنح الناس إلى تعلمها والتدرب والتمرن على فنون الإلقاء، وكذلك بدأ العلماء في استنباط قواعد المرافعة وقوانينها، وكان السفسطائيون أول من استنبطوا تلك القواعد ثم جاء من بعدهم أرسطو الذي أسس فن المرافعة على الجدل وأقامه على الدليل وأوجب أن تتم مخاطبة الجمهور بما يناسب حالته ونفسيته، مما أدى لامتزاج الفلسفة بالخطابة أو المرافعة.
ثم بعد ذلك انتشرت الخطابة القضائية فكان يتم عرض الدعاوى أمام المحاكم والرد عليها في ميادين مبارزة كلامية، وعندما سادت الحضارة الرومانية اتبع الرومان أثر أساتذتهم اليونانيين وساروا على نهجهم.
أما عن العرب فكانوا في المراتب الأولى من حسن البيان فقد جاء في الأثر أن الحكمة نزلت على ألسنة العرب، وكانت الخطابة مزدهرة عند العرب في العصر الجاهلي، ثم جاء الإسلام وأجاز الوكالة في مطالبة الحقوق، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ” إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن كنت قطعت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار”، وفي هذا الحديث دلالة واضحة على وجود الخطبة القضائية في العصر الإسلامي الأول، وهناك أدلة أخرى كثيرة من القرآن والسنة والإجماع والمعقول.
رابعًا: مبادئ في فن المرافعة
وهي عبارة عن أربعة مبادئ سنتناولها بالشرح على النحو التالي:
1. البلاغة
البلاغة ضرورية لإظهار الحق وذلك بأن يكون المترافع رابط الجأش متخير للفظ، فالبلاغة هي إيصال ما في القلب إلى القلب، وهي صفة لازمة لمن جعل الدفاع عن حقوق الناس مهنته فالمحامي يجب أن يكون بالغ الأثر بلسانه متلاعبًا بالقلوب والعقول. ولكن يجب ألا يبغي المحامي من مرافعته قلب الحقائق بزخرف القول، بل يكون هدفه الوحيد ونيته الوحيدة هو بيان الحق.
2.الجرأة
المرافعة تتطلب الجرأة، والجرأة لا تعني الغرور أو الكبرياء، بل هي الجرأة المقرونة بالتواضع، وتعني أن يكون المحامي على استعداد للمواجهة الشفوية والمخاطرة في سبيل إظهار الحق وذلك دون الإضرار اللفظي بالنفس أو بالآخرين ولا تعني الاعتداء على حقوق الغير أو أخذ ما ليس حقًا للجريء في سلوكه، وهي تعتبر بيانًا عن الشخصية القوية وعن طاقة الإقدام داخل الفرد.
3.الاحترام
على المحامي المترافع أن يتخذ من سلوكه ومظهرة ما يدل على احترامه لهيئة المحكمة، وألا ينتقص من احترام هيئة المحكمة أو الزميل المحامي الخصم أثناء المرافعة بالقول أو بالتلميح أو بالإشارة، وأن يكون وافر التهذيب في كلامه ووقفته وحركاته، وأن يتجنب الكلمات المبتذلة والنابية؛ مما يضفي على المحامي مظهر الوقار والاحترام ويجعله مهاب الجانب.
4. العاطفة
فالمحامي الجيد هو من يمتلك مؤثرات الذكاء العاطفي عند إلقائه مرافعته فهو يستشعر ما يقول وينقل ذلك الشعور إلى سامعيه فيؤثر فيهم وذلك لأن ما يصدر من القلب ينفذ إلى القلب.
خامسًا: الشروط الواجب توافرها في المرافعة
تتمثل أهم الشروط الواجب توافرها في المرافعة، فيما يلي:
وحدة الموضوع
ترتيب الكلام وترتيب الأفكار بحيث يبدأ أولًا بالفكرة البسيطة ثم يتدرج حتى يصل إلى قمة ما يريده، وفي القمة يبدي انفعاله وقوة صوته وقوة عباراته جميعها.
إذا انتقل المترافع من الفكرة الأساسية إلى الأدلة التي يريد الاستناد إليها يجب أن تكون أدلته واضحة قريبة متصلة بما عرضه في موضوعه. وعلى أي حال فإن عرض الموضوع لا بد له من نوعين من الأدلة؛ أدلة تؤيده، وأدلة تدفع ما يعارضه أو ما عسى أن يعارضه.
وتجدر هنا الإشارة إلى الخطأ الذي يقترفه الكثير والذي يكمن في إهمال تحضير المرافعة فكيف يأمل ذلك المحامي حتى في قهر الخوف والتوتر العصبي حين يخوض المعركة بعدة فاسدة أو بدون أية عدة على الإطلاق.
والمرافعة الجيدة هي تلك التي تتسلح بمادة احتياطية وافرة فائضة أكثر بكثير مما يستخدمه المدافع وإلا كمن بدأ دون أن يعرف ما الذي سيقوله وانتهى دون أن يعرف بما نطق.
والنصيحة الأساسية هي ألا يبحث المحامي عن الكلمات ولكن يجب عليه أن يبحث فقط عن الحقيقة والفكرة فعندئذ تتدفق الكلمات من دون أن يسعى إليها.
كما يجب على المحامي أن يتسلح أولًا وأخيرًا بالوقار، فالمحامي الذي يفقد وقاره يفقد موكله ويفقد قضيته ويفقد نفسه.
سادسًا: عناصر نجاح المرافعة القضائية
لعل أهم ما تعتمد عليه الخطبة القضائية، يتمثل في:
1.درس القضية درسًا عميقًا شاملًا لا يغيب عن المحامي أي جزء منها.
2.وضعها في الصورة القانونية الملاءمة.
3.صياغة الخطبة في صورة منطقية متسلسلة.
4.جودة الأسلوب وقوة التعبير.
والخطبة القضائية لها مدارسها ورجالها، ويجب أن نتذكر وصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء، وهي رسالة مشهورة مذكورة في أكثر الكتب الأدبية والتاريخية، ويجب ألا نغفلها ولا يغفلها دارس سواء كان محاميًا أو قاضيًا أو خطيبًا.
سابعًا: عناصر المرافعة
سوف نتناول عناصر المرافعة من خلال الثلاث النقاط التالية:
1.افتتاح المرافعة
يجب افتتاح المرافعة بمقدمة مثيرة وبشيء يأسر الانتباه في الحال والخطيب الذي يتمتع بالذكاء يحفظ المقدمة أولًا، والتي يُفضل في هذا الزمان أن تكون قصيرة كلائحة الإعلان لأن ذلك يتطابق مع مزاج القاضي في هذا العصر، ويجب أيضًا ألا يبدأ المحامي مرافعته بالاعتذار بأنه لا يجيد المرافعة فهذا خطأ جسيم.
وقد يبدأ المحامون مرافعاتهم بتقديم مثال محدد واضح أو الافتتاح بسؤال عام محدد الإجابة، كما أن البعض يفتتح المرافعة افتتاحًا طارئًا بحادثة مثيرة متعلقة بالقضية. ومن المفيد أن يلتقط المترافع أنفاسه في البداية لكي يزول التوتر العصبي.
والمقدمة هي أول ما يطرق سمع الناس فإذا كانت جذابة مشوقة أنجحت المحامي وجعلت القضاة يقبلون عليه وإقبالهم عليه يشد عزمه ويثير فيه النشاط والحمية. ومن أهم السمات التي يجب أن تتميز بها المقدمة:
•أن تكون مشوقة ذات قدرة على شد انتباه السامعين.
•أن يبدأ المحامي بألفاظ واضحة ومفهومة وأفكار قريبة لا تحتاج إلى التفكير.
•أن تكون المقدمة شديدة الصلة بموضوع المرافعة فلا يكون بينها وبين المرافعة حين ينتقل إليها فجوة، بل تكون امتداد للمقدمة وبذلك يتم ربط الصلة بين المقدمة وموضوع المرافعة.
•من ناحية طول المقدمة أو قصرها يجب أن تكون غير مسرفة في أي من الجانبين لأنها إذا كانت موجزة جدًا لم يكن ثَم مقدمة إذا كانت طويلة جدًا ذهبت فائدتها أيضًا لأنها تستنفد قوة المترافع.
2.موضوع المرافعة
يجب أن يكون المترافع سيد موضوعه ومن ثَم فإن النجاح لا يكون إلا عن طريق العمل الشاق والتخطيط الصائب والتحضير الدائب، ويجب على المترافع ألا يبحث عن الكلمات ولكن يبحث عن الحقيقة والفكرة فعندئذ تتدفق الكلمات دون أن تسعى إليها.
ويجب التزام قواعد التذكر وتحسين الذاكرة عن طريق التكرار وترابط الأفكار، حتى لا يتوه مبدأ أو فكرة في المرافعة، كما أنه يجب أن يتم تحضير المرافعة قبل الجلسة بيومين على الأقل وإلا فإن الذاكرة لن تعمل إلا بنصف مقدرتها الممكنة؛ لأن العقل هو آلة ترابط الأفكار بشكل ما.
ومن هنا يستطيع المحامي الناشئ أن يكون مترافعًا بارعًا بالتدريب الجاد ومن خلال المقدرة على إلقاء الخطابات، فعدم القدرة على المرافعة قد يضع المحامي في وضعًا مخزيًا للغاية عندما تتضاعف دقات قلبه وتتلاشى الأفكار من رأسه ويقف محرجًا كالأخرس. ولا شك في أن معالجة ذلك لا يكون إلا عن طريق تحضير المرافعة مسبقًا والتدريب عليها بإصرار ومن ثَم يخف التوتر وتزداد الثقة بالنفس ويصبح خلال فترة محددة نجم الخطابة والمرافعة بين أقرانه.
3.ختام المرافعة
إن الخاتمة الحقيقية هي أكثر النقاط استراتيجية في فن المرافعة، فما يقوله الإنسان في النهاية هو ما يبقى في الآذان وعالقًا بالذهن. ولأهميتها فإن الخطباء المشهورين يقرون أنه من الضروري كتابة وحفظ الكلمات المناسبة في ذهنهم. ويجب أن تكون الخاتمة واضحة مثل طلب براءة المتهم أو الحكم عليه بأقصى العقوبة ومن أهم شروط الخاتمة ما يلي:
•ألا تكون بعيدة عن الموضوع ولا مجددة لأدلة أو آراء جديدة.
•أن تكون قصيرة في تعبيرها وأيضًا في إلقائها.
•أن تكون قصيرة على نحو ما وتكون حاسمة ومشوقة.
هذا وقد يستلزم ختام المرافعة الرأفة، الأمر الذي يحسن معه طلب استعمال منتهى الرأفة واستخدام الرحمة مع المتهم.
ثامنًا: أساليب المرافعة
أسلوب المرافعة هو فن تختلط فيه الأدلة التي تكفل الإقناع بالإثارة التي تحقق استمالة القاضي، وبالتالي تختلف وتتنوع أساليب المرافعة بحسب ما يفرضه المقام، وسوف نتناول بعض تلك الأساليب كما يلي:
1. أسلوب التعجب
وهو أسلوب كثيرًا من يلجأ إليه المترافع أمام القضاء بهدف تقريب وجهة نظره أو بيانها، أو دعم فكرته موضحًا وجود تناقض في شيء ما وجب على القاضي الانتباه إليه، وذلك مثل أن يقول المحامي: ” كيف يمكن أن يكون موكلي قد ارتكب الجريمة وقد كان متواجدًا في مكان آخر وقت ارتكابها بحسب شهادة أكثر من شاهد”.
2.أسلوب الاستفهام
يلجأ المحامي إليه عندما يهدف لتشويق القاضي، وذلك مثل أن يضع مجموعة من الأسئلة يجيب عليها عند نهاية كل سؤال، فالسؤال يثير عند القاضي حب الاستطلاع لمعرفة الجواب، ومن ثَم يحسن استماعه وتيقظه وانتباهه وبالتالي تثبت الإجابة في ذهن القاضي، لكن يجب التنويه إلى أن الإسراف في استخدام هذا الأسلوب قد يؤدي لنتائج عكسية ولهذا يجب على المحامي أن يوازن في أسلوبه ويتخير ألفاظه.
والجدير بالإشارة أن أسلوب الاستفهام سواء كان مجازيًا أو حقيقيًا فهو يُعد الأسلوب الأكثر استعمالًا في المرافعات القضائية، فنادرًا ما تخلو مرافعة من هذا الأسلوب.
3.أسلوب السخرية
وهو أسلوب يُستخدم في حالة وجود تناقض كبير أو أدلة غير واقعية أو كيدية فيلجأ المحامي المترافع لقول أشياء يقصد منها أشياء أخرى وذلك بقصد السخرية من أدلة الخصم والتناقض الواضح الصريح فيها فهذه الطريقة يفضل استخدامها في حدود ضيقة وعندما يكون هناك فجور في الخصومة وظلمًا بينًا لا لبس فيه يستدعي استخدام مثل هذا الأسلوب.
مع الانتباه إلى أنه لا يجوز للمحامي أن يظهر منه أي استهتار أو استهزاء وحتى استهجان أو استحسان أمام المحكمة وأن ذلك يشكل في القانون جرم خرق حرمة المحكمة، ولكن تم استعراض الأسلوب للغاية العلمية لا أكثر.
4.أسلوب التكرار
وهو أسلوب غير مفضل في المرافعات القضائية؛ إذ أنه يؤدي إلى الممل والسأم، ولكن يُمكن أن يلجأ إليه البعض بغرض ترسيخ فكرة معينة عند القاضي وحتى يجذب انتباهه.
5.أسلوب الاستعارة والتشبيه
قد تسهم الاستعارة والتشبيه والكناية أحيانًا في توضيح فكرة ما وإبرازها، فإتقان التعبير عن المعنى بأساليب مختلفة وسيلة فعالة من وسائل التعبير ينبغي على المترافع اتباعها حتى يحظى بإصغاء مستمعيه.
تاسعًا: أحكام المرافعة
جرت العادة على تقسيم المرافعة إلى مقدمة أو تمهيد ثم عرض للموضوع يليه المناقشة وهي لب المرافعة وجوهرها، وخرج البعض على هذه العادة فلم يأبه بالمقدمة ولم يقسم المرافعة إلى قسميها التقليديين -العرض والمناقشة- إنما كان يسوق الوقائع ويناقشها معًا حتى إذا انتهى من السرد سقطت أدلة الخصم من نفسها، والمحامين يكونون مستعدين عند قبول الوكالة لأن يلاقون وهم يؤدون واجبهم من العقبات والأخطار ما يلاقيه الجنود في الميدان من طوارئ ومفاجآت.
وعلى المحامي أن يكون دارسًا تمامًا لموضوعه وأن يضع في ذهنه أو على ورقة ما النقاط التي يقوم بالتحدث فيها.. وما عدا ذلك يكون خطابه كله مرتجلًا وعليه أن يحظى بالدقة ونوع الأسلوب الذي يستعمله لو أراد كتابة مقال مجلة.
فالعيوب المزعومة التي تُنسب إلى الخطاب المرتجل هي في الواقع من صور جاذبيته، فالجمل الاعتراضية التي تتضمنها والفواصل والعبارات الغامضة والتكرار كلها ذات تأثير فعال ما دام المحامي قادرًا على ذلك.
ولذلك يجب على المحامي عند الإلقاء ملاحظة النقاط التالية:
•التشديد على الكلمات المهمة والانخفاض على غير المهمة.
•تغيير طبقات الصوت.
•التوقف قبل وبعد الأفكار المهمة.
•تغيير معدل سرعة الصوت.
عاشرًا: مقومات المترافع الناجح
من سمات الأسلوب الخطابي وضوح العبارات وظهور معانيها بحيث يكون الغرض الذي يهدف إليه مفهومًا للسامعين، وبعض الخطباء يجعل خطبته كلها باللغة العامية وهذا خطأ كبير فاللغة الفصحى لها جمالها وتأثيرها حتى على العامة واستعمال العامية أو الإكثار منها يفقد الخطبة هذا التأثير ثم إن من بين المستمعين مثقفين، ولا يستريحون لهذا الأسلوب بل يؤذي شعورهم.
ومن أهم الشروط أيضًا الشجاعة الجرأة والثقة بالنفس بما يقول، وأن يكون وجيهًا تهابه القلوب وتعظمه النفوس يهابه الصغير ويوقره الكبير حتى يكون لكلامه تأثير ويجد له سميعًا يعي ما يُقال ويعمل بما يسمع.
ومن شروطه أيضًا أن يكون عالمًا بالقرآن والسنة والفروع واللغة العربية حافظًا آيات من الكريم والأحاديث القدسية والأحاديث النبوية والأمثال العامية والمواعظ والحكم والوصايا، وأن يكون نبيهًا ومن مقوماته دراسة أصول الخطابة وسعة الثقافة.
ونتناول فيما يلي أهم النصائح التي يجب على المحامي أن يلتفت إليها:
•عدم الإرتكان على المقدرة الكلامية، والبلاغة في التعبير، بل يجب الإعداد للقضية كما لو كان المحامي لا يحسن الكلام.
•الوضوح وحسن التعبير أفيد للمترافع من قوة الحجة، فلا قيمة للحجة إذا لم يحسن المترافع شرحها.
•لا يجب على المحامي أن يكتفي بكون المرافعة واضحة مستوفية للحجج مرتبة، بل يجب عليه أن يعرف كيف يعالج قاضيه وكيف يلعب على أوتار قلبه.
•قد يترافع المحامي ساعتين ويكون مقلًا، وقد يترافع غيره خمس دقائق ويصبح مملًا.
•التقليل من السخرية، فلا يسر القاضي أن يقوم المحامي بتسليته على حساب الخصوم.
•الاجتهاد في الاستحواذ على انتباه القاضي بداية من أول جملة.
•عدم التحدث في مسائل بديهية أو خارجة عن موضوع الدعوى، وعدم التعرض أيضًا لأشخاص لا علاقة لهم بالدعوى.
•يجب على المحامي أن يتذكر دائمًا أن الكلام الغامض عن وقائع واضحة يجعلها غير مفهومة، في حين إن الحديث الواضح عن وقائع غامضة يلقي عليها بصيصًا من النور.
•معرفة الحقيقة شيء والتعبير عنها والاقناع بها شيء آخر، فالإقناع يتطلب -فضلًا عن قوة التعبير- طريقته.
•الاهتمام بالجانب المظلم في القضية أكثر من الاهتمام بالجانب المضيء، فالجانب السهل يتولى نفسه بنفسه.
•لا ينحصر فن المحامي في إعداد أفضل الأسلحة ليستعملها في المعركة، بل في معرفة كيف ومتى يستعملها.
•بدء المرافعة دائمًا في هدوء وتواضع، حتى يتأهب القاضي لسماع صرخات غضب المحامي بعد ذلك. فالصراخ والصوت الغاضب منذ البداية وقبل أن يكون له سببًا يدركه السامعون ينفرهم بدلًا من أن يسترعي اهتمامهم.
إحدى عشر: كيفية التغلب على القلق عند المرافعة
يجب على المحامي أن يتغلب على القلق الذي يسببه انشغاله على القضية، وله في ذلك أن يقوم بما يلي:
•أن يسأل المحامي نفسه عن أسوأ الاحتمالات التي يمكن أن تحدث ثم يهيئ نفسه ذهنيًا لقبول أسوأ الاحتمالات، فإذا حدث نسبة أقل فهذا أيسر.
•يجب على المحامي إذا حدثت نتيجة غير متوقعة أن يرضى بما قسمه الله له.
•أن يستريح المحامي قبل أن يبدأ القضية وأن يتعلم كيف يسترخي وهو يزاول عمله.
•ألا يجادل إذا كان مخطئًا وأن يعلم أن خير سبيل لكسب الجدال هي أن يتجنبه وأن يسلم بخطئه إذا كان مخطئًا.
•التبسم في وجه الموكل وجعل المصافحة حارة، فمن لا يستطيع ذلك لا يجوز له أن يفتح مكتبًا للمحاماة.
•إشعار الموكل بأهميته وإسباغ التقدير على كل ما يقول ولفت نظر إلى أخطائه.