أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
من النادر أن يحدث اختلاط المواليد حديثي الولادة في المستشفيات عند الولادة، ولكن إذا حدث ذلك الاختلاط فأنه يكون سبباً في التنازع بين الاباء ، كما حدث في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا، فقد ولدا طفلان خديجان لم يكتمل نموهما ، وكانا يتلقيا العلاج في إحدى المستشفيات اليمنية فمات احدهما وظل الآخر على قيد الحياة، فحدث النزاع بين ابوي الطفلين، حيث كان كل واحد منهما يدعي ان الطفل الذي ظل على قيد الحياة هو ابنه وان الطفل المتوفي ليس ابنه، وقد اعتمد الحكم محل تعليقنا في تحديد اب الطفل الحي على التقارير الطبية الصادرة من المستشفى بالإضافة إلى شهادات الشهود من داخل المستشفى، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 23-5-2012م في الطعن رقم (49707)، المسبوق بالحكم الابتدائي الذي قضى بأنه (استناداً إلى التقريرين الطبيين بشان المولودين اللذين ولدا مصابا بجرثومة الدم فمات احدهما وظل الآخر حياً، فهذان التقريران الطبيان حجتهما مطلقة على الطرفين المدعي والمدعي المتنازعان على الطفل الحي، لأن التقريرين صادرين عن المستشفى الذي ادخل إليه الطفلان لتلقي العلاج من قبل الأطباء المختصين واستمر رقودهما حتى توفى الأول وظل الآخر حياً حتى التاريخ، حيث تنازع المدعي والمدعى عليه على الطفل الحي، إضافة إلى التقريرين الطبيين فقد استندت المحكمة إلى شهادات الأطباء الثلاثة المذكورين آنفاً احدهم من المختصين بعلاج الطفلين والثانية إحدى الحاضنات للأطفال حديثي الولادة ومنهم طفلي المدعي والمدعى عليه والشاهد الثالث مسئول السجلات الطبية في المستشفى، فقد اكدت شهادات هؤلاء صحة ما جاء في التقريرين الطبيين المشار إليهما، ولذلك فقد قضت المحكمة بقبول دعوى المدعي وتسليمه الطفل الحي)، وقد ايدت الشعبة الاستئنافية الشخصية الحكم الابتدائي، وعند الطعن في الحكم الاستئنافي أمام المحكمة العليا اقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا: ((وبالرجوع والتأمل للحكمين الابتدائي والاستئنافي فقد ثبت أن المحكمتين الابتدائية والاستئنافية قد التزمتا بتطبيق القانون وانهما قد فصلتا فيما طرح امامهما ولم يظهر في حكميهما أية مخالفة للقوانين النافذة كما توهم الطاعن، فقد ظهر من خلال اسباب حكمي المحكمتين انهما استندا إلى أدلة ثابتة وقوية ومتينة))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
اجاز قانون الإثبات اليمني للقاضي الاستعانة بأعمال الخبرة في المسائل الفنية الدقيقة بما فيها المسائل الطبية التي يدق على القاضي فهمها، وفي هذا الشأن نصت المادة(165 ) من قانون الإثبات على أنه( على المحكمة في المسائل الفنية كمسائل الطب والهندسة والحساب وغيرها مما يدق فهمه أن تعين خبيرا(عدلا) أو أكثر من المؤهلين علميا وفنيا أو ممن لهم خبرة خاصة المشهورين بذلك لتستعين بهم في كشف الغامض من هذه المسائل مما يفيد في إثبات الواقعة المراد إثباتها ويجب على المحكمة أن تذكر في قرارها بيانا دقيقا لمأمورية الخبير والأجل المضروب لإيداع تقريره فيه ويكلف الخبير بتقديم تقرير بما أدت إليه أبحاثه في الموعد المحدد، ويجوز أن يتفق الخصوم على خبير (عدل مرجحا) أو أكثر تعينهم المحكمة بناء على طلبهم كما يجوز أن يختار كل من الخصمين خبير(عدلا) مرجحاً على أن تختار المحكمة خبيرا عدلا مرجحا).
أحاطت الشريعة الإسلامية الأنساب ببالغ الرعاية والعناية، وجعلت المحافظة على النسب من مقاصدها، وشرعت الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع من حيث تشريع الزواج وإثبات النسب وتحريم الزنا وغير ذلك.ومن المعروف ان إثبات النسب في العصر الحاضر يتم عن طريق البصمة الوراثية التي هي من القضايا المستحدثة في مواضيع إثبات النسب، ويمكن استخراج حكمها بالنظر إلى كلام الفقهاء في وسائل إثبات النسب وتخريجها على (القيافة) التي قال بها جمهور الفقهاء، والإثبات بطريق (DNA) ) أولى بالحجية من (القيافة)؛ لاعتماد البصمة الوراثية على أسس علمية واضحة. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة (21-26/ 10/ 1422هـ) الموافق (5-10/ 1/ 2002م): "إن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث ، فالبصمة الوراثية أقوى بكثير من القيافة العادية (التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع)".ومما هو معلوم أن إثبات النسب بالبصمة الوراثية لا يقدم على وسائل الإثبات الأقوى منه كالفِراش؛ فلا يجوز البحث في نسب من كان معروف النسب ومولودًا من فراش صحيح. قال الخطيب الشربيني: "لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره" "مغني المحتاج" (3/ 304).أما إثبات نسب الولد الناتج من علاقة غير شرعية فغير وارد باتفاق الفقهاء، حتى لو أثبتت فحوصات البصمة الوراثية نسبه إليه؛ لأن الزنا لا يصلح سببًا لثبوت النسب؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الوَلَدُ لِلفِراشِ وَلِلعاهِرِ الحَجَرُ) متفق عليه. والمراد بـ(الفِراش): أن تحمل الزوجة من عقد زواج صحيح، فيكون ولدها ابنًا لهذا الزوج، والمراد بـ(العاهر): الزاني.لكن يجب أن يُنسب ولد الزنا لأمه فقط، فيجب تعريفه بأمه؛ لما بينهما من الحقوق المتبادلة كحق الميراث والحضانة وحرمة المصاهرة وغيرها من الحقوق.والحاصل أن إثبات النسب أو نفيه بالبصمة الوراثية يجب ألا يُقدَّم على القواعد الشرعية ولا وسائل الإثبات الأقوى منه، ولكن يجوز استخدامه في حالات التنازع على مجهولي النسب، أو حالات الاشتباه بين المواليد في المستشفيات، أو ضياع الأطفال واختلاطهم، ولا يصح إثبات نسب لمعروف النسب ولا لمولود الزنا.وقد اعتبر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة خلال سنة 2002 أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما، فهي أقوى بكثير من القيافة العادية (التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع) وأن الخطأ في البصمة الوراثية ليس واردا من حيث هي وإنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث وقرر مجلس مجمع الفقه ما يلي:1) إن إستعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لابد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية لذلك لابد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.2) لايجوز شرعا الإعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان.3) لايجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعا .4) يجوز الإعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية:أ- حالات التنازع على مجهول النسب.ب- حالات الإشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها وكذا الإشتباه في أطفال الأنابيب.ج- حالات ضياع الأطفال وإختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوارث او العروب، وتعذر معرفة أهلهم أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها.كما يوصي المجمع بأن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء.كما اعتبر المشاركون في أعمال الندوة المنعقدة بالكويت سنة 2000 بشأن حجية البصمة الوراثية في موضوع النسب، بأن الدولة المتقدمة بدأت في تطبيق هذه البصمة كأحد الإختيارات الأساسية في إثبات النسب (أو العكس) مع التأكيد على توخي الحيطة والحذر عند تحليل النتائج وإسناد هذه المهمة إلى خبراء على دراية كافية بإجراء مثل هذه التحليلات.ومن هذا المنطلق فإن الحكم محل تعليقنا قد وافق الفقه الإسلامي، لأنه قد استخدم إثبات النسب عن طريق التقارير الطبية في إثبات النسب وليس نفي، كما أنه استخدم التقارير الطبية في إثبات النسب في حالة التنازع عند إختلاط المواليد في المستشفيات إضافة إلى أن الحكم محل تعليقنا لم يركن إلى التقارير الطبية في إثبات النسب بل دعمها بشهادات الشهود من داخل المستشفى، والله اعلم.