المحامية / نسمة عبدالحق النجار.
مقدمة:
لا خلاف على عدم إلزامية (عدم حجية) أحكام القضاة فيما بينهم البين بالنسبة لقضاة المحاكم الإبتدائية ومن يخلفهم ولا أحكام محكمة الإستئناف عليهم جميعاً، وكذا عدم إلزامية أحكام شعب الإستئناف بالنسبة للأحكام التي تصدر من الشعب فيما ببينها البين أو الشعبة ذاتها ومن يخلفها، كل ذلك التسليم كوننا لسنا أمام حكم بات والأحكام السالفة هي للإستئناس والإسترشاد فقط وهوما لا خلاف عليه ويعد محل إتفاق بين القانون والواقع، الإشكالية تثور حول حجية (إلزامية) أحكام المحكمة العليا باعتبارها أحكام باتة على المحاكم الأدنى درجة منها وعلى دوائرها وعلى الدائرة ذاتها مصدرة الحكم.ومن الواجب علينا إبتداءً التنويه أن هذه الدراسة هي دراسة قانونية بحتة ولا تمس بأي حال من الأحوال قدر ومكانة ومقام وعلم وعدالة واجتهاد المحكمة العليا، ولكن لأهمية الموضوع وانعكاساته على الواقع القضائي، رأينا أنه من الأهمية بمكان الحديث عنه في عدد القضائية هذا دون سواه، على أمل أن يكون التوفيق حليفنا.هذه الدراسة تنطلق من ركيزة أساسية تتمثل بأنه: (إذا كانت المقدمات سليمة ومقطوع بصحتها كانت النتائج كذلك)، وعليه فأنه لا يخفى على القانونيين وهم خير من يفقه أن أحكام المحكمة العليا توحد القانون باعتبار أن المحكمة محكمة قانون كأصل واعتبارها محكمة موضوع هو الإستثناء وليس ذلك محل حديثنا في هذا الموضوع.تمهيد وتقسيم:(القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً ...والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون...)، هكذا نصت المادة (149) من الدستور اليمني والتي جاءت كأول مادة من الفصل الثالث المعنون بــــــ (السلطة القضائية)، كما نصت المادة الأولى من قانون السلطة القضائية في الباب الأول على أن: (... القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ...) بهاتين المادتين ووردهما في صدارة الذكر من الفصل الثالث المنظم للسلطة القضائية من الدستور والباب الأول من قانون السلطة القضائية وورودهما بوضوح تام وعبارات قاطعة وواضحة وضوح الشمس في كبد السماء وقت الظهيرة بعيدة عن أي إحتمالات أو تأويلات أو حمل أكثر من دلالة ، ما ذلك إلا تأكيد حاسم ويقيني بأن القاضي في قضائه أي عند نظره لأي نزاع أمام محكمته لا يقيده في حكمه سوى القانون، نعم القانون لا سواه أياً كان لا يحكمه ولا يؤثر عليه، فلا يؤثر عليه تدخل غير قانوني وهو التدخل الذي يقصد به الإنحراف التام عن العدالة ولا تدخل قانوني والذي معناه سيتجلى للقارئ الكريم بعد الإنتهاء من قراءة هذه الدراسة المختصرة،
الجانب الأول: (حجية حكم المحكمة العليا على المحاكم الأدنى درجة)،
الجانب الثاني: (حجية حكم المحكمة العليا على دوائرها بينها البين وعلى الدائرة ذاتها الصادر عنها الحكم).
حجية حكم المحكمة العليا على المحاكم الأدنى درجة تتخذ أحكام المحكمة العليا عدة صور او تكييفات إن جاز لنا التعبير، فقد تكون مطبقة لنص قانوني نافذ فيكون الحكم في هذه الحالة حكم كاشف للنص القانوني، كما لو كانت نصوص قانونية عُنيت بتنظيم مسائل إجرائية أو شكلية أو موضوعية وهذه النصوص تكون صريحة وواضحة ولا يشوبها أي غموض ، وفي هذه الحالة تطبيق المحاكم الأدنى لحكم المحكمة العليا ما هو إلا تأكيد للنص القانوني المنطبق على الواقعة محل النزاع ولا يعدوا أن يكون للإستئناس فقط، كون الحكم أساسه واستناده هو للنص القانوني ولم يأت بجديد، وهذا التكييف لا خلاف عليه بين القانونيين، فحجية حكم العليا على المحاكم الأدنى درجة للإستئناس كونه جاء مطبقاً للنص القانوني النافذ وحجية حكم المحاكم الأدنى درجة مستمد أساساً من القانون لا من حكم المحكمة العليا، ويدخل في هذه الحالة الإستثناءات عن الأصل الواردة في المادة (234) من قانون المرافعات النافذ والتي سنتحدث عنها في محله من هذه الدراسة.وقد تكون أحكام المحكمة العليا أحكام قضائية إجتهادية لوقائع ونزاعات معروضة عليها لم ينظمها القانون بنص واضح وصريح أوكانت النصوص غامضة وتحتاج إلى تفسير، وهذه الحالة هي الأكثر جدلاً في الواقع القانوني القضائي، وهو ما يطلق عليها بوصف: (السابقة القضائية)، ففي هذه الحالة نعود إلى القوانين النافذة لتوضيح مدى حجية الحكم الصادر من المحكمة العليا، وبالرجوع لقانون المرافعات النافذ (المعدل) نجد أن المادة (8) منه نصت على وجوب أن : (يتقيد القاضي في قضائه بالقوانين النافذة ويجب عليه تطبيق أحكامها)، وهذا النص يوضح بجلاء لمطالعه وبما لا يدع مجال لأدنى شك بأن القاضي لا يقيده في قضائه سوى القانون لا سواه، وما ذلك إلا نتيجة حتمية للتسليم بإستقلال القضاء ولا سلطان عليه أحد سوى القانون، كما أن الحكم القضائي يختلف من قضية لأخرى وفق ظروف كل منها ومتغيراتها وعواملها والتي تختلف من قضية لأخرى، ولهذا نص المشرع في المادة (234) من القانون ذاته على أنه: ( تقتصر حجية الأحكام على أطراف الخصومة وموضوعها وسببها ...) كأصل عام وأورد إستثناءات تتعلق بالنظام العام كونها حالات لها خصوصيتها وعامة مجردة لا تمثل فئة بعينها وكونها ذات حجية مطلقة، وهذه الإستثناءات أوردها المشرع على سبيل الحصر والقصر لا على سبيل القياس أو المثال في المادة ذاتها التي أورد بها الأصل وبما نصه:(... وتستثنى من ذلك الأحكام الآتية لكونها ذات حجية مطلقة وهي:
1- الأحكام الصادرة بعدم دستورية القوانين،
2- الأحكام الصادرة في دعاوى إلغاء القرار الإداري،
3- الأحكام الجنائية الباتة الصادرة بالبراءة،
4- الأحكام الصادرة بالإفلاس،
5- الأحكام الصادرة بالنسب).
كما أن الواقع أيضاً يثبت ويؤيد ما ذهبنا إليه من تأسيس قانوني للتأكيد على عدم إلزامية أحكام المحكمة العليا على المحاكم الأدنى درجة، فالواقع يحكي خروج عدة قضاة في أحكامهم عن أحكام المحكمة العليا والتي أيدتها الأخيرة ومن ثم نُفذت، وهذه الأحكام التي خرجت عن أحكام سابقة للمحكمة العليا لذات الموضوع والسبب وربما الأطراف كما لو كانا عامل ضد شركة، هذه الأحكام جاءت بتسبيب وتأسيس قانوني سليم ولهذا لم تنقضها المحكمة العليا بحجة مخالفة القاضي لأحكامها السابقة المنظمة لذات المسألة القانونية، ومن هذه الأحكام الحكم الإداري في القضية رقم (41) لسنة (1432هـ) فقد جاء بما نصه: (وبشأن إستناد الدافع إلى الحكم الصادر من المحكمة العليا، فالمعلوم أن النظام القضائي اليمني لا يأخذ بالسوابق القضائية وما يصدر عن المحكمة العليا ليس ملزم للمحاكم الأدنى...)، وكذلك الحكم الإداري رقم (188) لسنة (1435هـ) للقضية رقم (451) للسنة ذاتها، أيضاً الحكم الإداري رقم (314) لسنة (1438هـ) للقضية رقم (102) للسنة ذاتها، والعديد من الأحكام القضائية التي أكدت على عدم إلزامية أحكام المحكمة العليا للمحاكم الأدنى درجة بتأسيس واستناد قانوني سليم وصحة في الإستدلال والإستنباط وبسند من الواقع والقانون.
ولولا تضارب أحكام المحكمة العليا لما وجدنا شركات القطاع المختلط تُنظر قضاياها أمام المحكمة الإدارية وكذا أمام المحكمة العمالية (اللجان العمالية سابقاً) في الوقت ذاته !! على الرغم من أن قانون الخدمة المدنية نصه واضح وصريح في إسناد الإختصاص القضائي النوعي في نظر قضايا القطاع المختلط للمحكمة الإدارية
ولهذا نصت المادة (3) من القانون المشار إليه بما نصه: (أ - تسري أحكام هذا القانون على :1-موظفي وحدات الجهاز الإداري للدولة.،2-موظفي القطاعين العام والمختلط حتى تصدر التشريعات المنظمة لهذين القطاعين) ولهذا جاء تعميم (قرار) مجلس القضاء الأعلى في الأشهر الماضية القريبة برقم (133) لسنة (1444هـ) الموافق (27/2/2023م) مستنداً على مذكرة رئيس المحكمة العليا الذي أوضح من خلالها أن القانون العام يوجد به نصوص صريحة تنظم الإختصاص القضائي النوعي لشركات القطاع المختلط ، كما أستند القرار على الحكم الدستوري الملغي للجان التحكيم العمالية وكذا قرار إنشاء المحكمتين الإداريتين في صنعاء وعدن، ومن هذا التعميم نستشف إحتمالية بل وبمعنى أدق واقعية وجود تعارض فعلي بين أحكام المحكمة العليا، حيث كانت المحكمة الإدارية قبل صدور التعميم الآنف ذكره وبيانه كانت تطبق القانون لا سواه بنظر قضايا القطاع المختلط على الرغم أن لجان التحكيم سابقاً كانت تنظر ذات القضايا وأُيدت أحكامها من المحكمة العليا !! ومع ذلك لم تمتنع المحكمة الإدارية من نظر قضايا القطاع المختلط تغليباً للنص القانوني وهو ما أيده قرار مجلس القضاء الأعلى الآنف ذكره وبيانه.
وكل ما سبق توضيحه يؤكد نص المادة الأولى من القانون المدني والتي تنص على أن : (يسري هذا القانون المأخوذ من أحكام الشريعة الإسلامية على جميع المعاملات والمسائل التي تتناولها نصوصه لفظاً ومعنى، فإذا لم يوجد نص في هذا القانون يمكن تطبيقه يرجع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية المأخوذ منها هذا القانون فإذا لم يوجد حكم القاضي بمقتضى العرف الجائز شرعاً فإذا لم يوجد عرف فبمقتضى مبادئ العدالة الموافقة لأصول الشريعة الإسلامية جملة ويستأنس برأي من سبق لهم إجتهاد من علماء فقه الشريعة الإسلامية ويشترط في العرف أن يكون ثابتاً ولا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية والنظام العام والآداب العامة)، ومن هذه المادة نستنتج التدرج الذي شرعه المشرع للقاضي عند نظر أي نزاع يُعرض عليه للحكم فيه ، فأولاً غلب المشرع النص القانوني وجعله في المرتبة الأولى في التطبيق وهو ما يتوافق مع أحكام مواد نصوص قانون المرافعات السالفة بيانها، ثم يأتي في المرتبة الثانية في التطبيق الشريعة الإسلامية مع التأكيد أن القانون هو مأخوذ من أحكامها، ثم تأتي المرتبة الثالثة المتمثلة بالعرف الجائز شرعاً مع إشتراط أن يكون ثابتاً ولا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية والنظام العام والآداب العامة، ثم تأتي المرتبة الرابعة المتمثلة بمبادئ العدالة الموافقة لأصول الشريعة الإسلامية، وهنا يجب التركيز على لفظ : (الإستئناس) الوارد في المادة فلم ينص المشرع على لفظ (الوجوب) برأي من سبق لهم الإجتهاد من علماء فقه الشريعة الإسلامية وهو ما ينطبق على علماء فقه القانون وهم قضاة المحكمة العليا، والذي كان وصولهم لهذا المنصب العظيم ثمرة تفقهم بعلمي الشريعة الإسلامية والقانون كون الأخير يستمد أحكامه من الأول، كما نصت المادة (135) من ذات القانون على أنه: (إذا لم يوجد نص في القوانين الخاصة يمكن تطبيقه على المسألة المتنازع عليها فيرجع أولاً إلى أحكام هذا القانون إن وجد فيه وإلا كان تطبيق ما تضمنته المادة الأولى من هذا القانون).
وتعرف مبادئ العدالة باعتبارها المصدر الرابع من المصادر الرسمية بأنها: ( معايير وضوابط عامة يستخلص منها القاضي حلاً للنزاع المعروض عليه، وتتميز بأنها ليست قواعد محددة يمكن للقاضي الرجوع إليها على سبيل الدقة وهو ما يميزها عن المصادر الرسمية السابقة المتقدمة عليها، ومع ذلك ألزم المشرع القاضي الأخذ بها عندما لا يجد حلاً في المصادر الرسمية الأخرى كي يقطع على القاضي سبيل النكول عن العدالة، وعلى الرغم أن العدالة يعتريها الغموض وعدم الوضوح في فقه القانون الوضعي إلا أن حالها يختلف في فقه القانون اليمني وفقه الشريعة الإسلامية، حيث أن المشرع اليمني وضع للقاضي ضابطاً عاماً عند تطبيقه مبادئ العدالة وهو تطلبه أن تكون هذه المبادئ التي يستنبط الحكم منها موافقة لأصول الشريعة الإسلامية جملة وفقاً لمبادئها وأصولها ومقاصدها العامة، وعليه فأن القاضي لا يصدر الحكم وفقاً لأفكاره ومعتقداته الخاصة، والواقع أن إحالة المشرع اليمني القاضي إلى مبادئ العدالة وإلزامه بتطبيقها في حال عدم وجود حل في المصادر المتقدمة عليها هو تكليفه للقاضي بالقيام بنوع خاص من الإجتهاد وهو الإجتهاد المقاصدي الذي يستنبط منه القاضي الحكم من الحكمة المقصودة للشارع من الأحكام والمبادئ العامة في الشريعة الإسلامية، كون أحكام الشريعة الإسلامية قامت في مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد)،"د. عبدالكريم يوسف القاضي- النظرية العامة للقانون- صنعاء- الأمين للنشر والتوزيع- الطبعة الرابعة- ص 122و 123".
ومن الواجب والأهمية معاً أن ننوه أن تفسير القانون اليمني قد أوضح المشرع المدني في مادته (18) الجهات المنوط بها تفسير ما غمض من القانون ، حيث تنص المادة على أن: (المرجع في تفسير نصوص القوانين وتطبيقها هو الفقه الإسلامي والمذكرات الإيضاحية والكتب الشارحة الصادرة من الهيئة التشريعية المختصة)، ومن هذه المادة يتضح لنا بجلاء أن المشرع عهد بمهمة تفسير ما غمض من النصوص القانوني النافذة وبيان كيفية تطبيقها لمصدرين تفسيريين لا ثالث لهما، الأول الفقه الإسلامي والمذكرات الإيضاحية والكتب الشارحة شريطة صدورها من هيئة تشريعية مختصة، وبالتالي لم يعهد المشرع بمهمة التفسير للقضاء (المحكمة العليا) حتى يصبح حكمها مصدراً تفسيرياً ملزماً، كون الأصل في القاضي الإجتهاد فيما لم يرد في المصادر الرسمية المتقدمة والسابقة عليه ولكل ما أوردناه في هذه الدراسة، والملاحظ أن المشرع قد ساوى بين المصدرين التفسيريين، وذلك بايراده حرف العطف (و) ولم يورد أحد الحرفين (أو، ثم) أو أي كلمة أو عبارة تفيد التدرج أو تقدم مصدر تفسيري عن غيره، وبالتالي فأن المصدرين يحملان ذات الحجية، وللقاضي الأخذ بالتفسير الأقرب بما يتلائم مع ظروف القضية المعروضة أمامه إن وجد غموض يعتري أي نص وتم تفسيره من أحد المصدرين لا مصدر حكم العليا غير الملزم مالم فلا مفر من الإجتهاد.
نعم المشرع اليمني لم يحذو حذو بعض الدول المقارنة في إسناد مهمة التفسير للقضاء، لذلك لا حجية لأحكام المحكمة العليا المفسرة على المحاكم الأدنى درجة منها. (وعلى الرغم أن انحصار دور القضاء ومهمته في القوانين الحديثة بتطبيق وتفسير القانون، كون ذلك نتيجة لمبدأين؛ الأول مبدأ الفصل بين السلطات والثاني كون الأحكام القضائية ليست لها صفة العمومية والتجريد كالقواعد القانونية وإنما هي ذات طابع شخصي أو ذاتي، فقد كان أثر ذلك أن الحكم القضائي لا يقيد سلطة المحكمة التي أصدرته ولا سلطة المحاكم الأخرى فيما يعرض عليها في المستقبل من حالات مماثلة وإنما يبقى القاضي حراً طليقاً إزاء كل السوابق القضائية)، "د. عبدالكريم يوسف القاضي- النظرية العامة للقانون- صنعاء- الأمين للنشر والتوزيع- الطبعة الرابعة- ص 134".، مع التأكيد على الإستثناءات الواردة في نص المادة (234) من قانون المرافعات الآنف ذكر نصها.(ويُعرف التفسير القضائي بأنه: التفسير العملي الذي يقوم به القضاء عند تطبيق النصوص القانونية على المنازعات المعروضة عليه واقعاً بخلاف التفسير التشريعي والفقهي الذي يغلب عليه الطابع النظري المجرد، والأصل أن يكون التفسير القضائي غير ملزم كون القضاء ليس مصدراً رسمياً للقانون والقاضي غير ملزم بالسوابق القضائية أياً كانت درجته إلا أن المشرع اليمني أستثنى من هذا الأصل؛ حالة إذا ما قضت المحكمة العليا إعادة الحكم إلى المحكمة التي أصدرته لسبب غير متعلق بقواعد الإختصاص، إذ أوجب على المحكمة المعاد إليها الحكم التقيد بتوجيهات المحكمة العليا)، "د. عبدالكريم يوسف القاضي- النظرية العامة للقانون- صنعاء- الأمين للنشر والتوزيع- الطبعة الرابعة- ص 181 و 182"، حيث نصت المادة (300) من قانون المرافعات النافذ (بعد التعديل) على أنه: (إذا رأت المحكمة العليا أن منطوق الحكم فيه موافق من حيث النتيجة للشرع والقانون رفضت الطعن،...، أما إذا كان الحكم المطعون فيه غير موافق من حيث النتيجة للشرع والقانون فللمحكمة العليا أن تحكم في الموضوع ما دامت القضية صالحة للحكم، وإلا نقضت الحكم المطعون فيه كله أو بعضه وأعادته للمحكمة التي أصدرته للحكم فيه من جديد متبعة توجيه المحكمة العليا) وهو الحكم ذاته الوارد في المادة قبل التعديل، وكذا الحال إذا تبين لمحكمة الإستئناف عدم فصل المحكمة الإبتدائية في مسألة في القضية، فتعيد الملف إليها للفصل فيها وذلك حتى لا يفوت على المتقاضي درجة من درجات التقاضي ولكون الأصل أن الأحكام القابلة للإستئناف تكون منهية للخصومة، وفقاً لنص المادة (288/ و/ ب) من قانون المرافعات والتي تنص على: (ب- يجب على محكمة الإستئناف ألا تنظر إلا في الوجوه والحالات التي رفع عنها الإستئناف فقط وفي حدود ما فصلت فيه محكمة الدرجة الأولى من تلك الوجوه والحالات، و- تحكم المحكمة الإستئنافية إما بتأييد الحكم المستأنف أو إلغائه أو تعديله، وإما بإعادة القضية إلى محكمة أول درجة للفصل فيما لم يتم الفصل فيه).
وفي حالة تعارض حكمين صادرين من المحكمة العليا أحدهما تطبيقاً لنصوص القانون والآخر مخالفاً لها، ففي هذه الحالة بداهةً يتم الأخذ بحكم العليا الأول لكل ما أوردناه في مستهل حديثنا في هذه الدراسة، وإذا كان أحدهما موافق للقانون والثاني نتيجة إجتهاد على الرغم من تنظيم القانون للمسألة بنص صريح فيغلب الحكم الموافق للقانون، وإذا كان الحكمان نتيجة إجتهاد فيما لم يرد به تنظيم في أي مصدر سابق على الإجتهاد، فللقاضي الإستئناس والإسترشاد بالحكم الأقرب للتطبيق مع وجوب الإجتهاد في القضية المعروضة أمامه.
ولكل ما سبق نستنتج أن أحكام المحكمة العليا ليست ملزمة (عدم حجيتها) للمحاكم الأدنى درجة وإنما للإستئناس والإسترشاد ولا يترتب على مخالفتها أي جزاء، بإستثناء الإستثناءت الموضحة آنفاً في هذه الدراسة.ومن الحالات النادرة في الواقع صدور حكم للمحكمة العليا مخالفاً لمسألة متعلقة بالنظام العام، لم يتم إثارتها في كل مراحل التقاضي لا من المحامين ولا القضاة، وفي هذه الحالة يعد هذا الحكم غير ملزم للمحاكم الأدنى درجة لمخالفته النصوص القانونية ولكل ما أوردناه آنفاً، وعلى وجه الخصوص إعمالاً لنص المادة (234) من قانون المرافعات في جانبها الأول.
ومثال على هذه الحالة كما أوضحنا آنفاً القرار(التعميم) الصادر من مجلس القضاء الأعلى، حيث كانت المحكمة العليا تؤيد أحكام لجان التحكيم العمالية قبل إلغائها فيما يتعلق بنظر قضايا القطاع المختلط، على الرغم أن الإختصاص النوعي ينعقد للقضاء الإداري لورود نص في قانون الخدمة المدنية الآنف ذكره، وهذه مسألة متعلقة بالنظام العام وللمحكمة إثارتها من تلقاء نفسها في أي مرحلة من مراحل التقاضي، وقد جاء قرار المجلس مؤيداً للقضاء الإداري.بل الأدهى من ذلك الحكم الصادر من المحكمة العليا الدائرة المدنية لسنة (1438هـ) الموافق (25/7/2017م) في الطعن المدني رقم (59005- ك) في القضية العمالية رقم (45) لسنة (1433هـ) الموافق (2012م) فيما بين موظف ضد جهة تابعة لأحد وزارات الدولة والعقد المبرم بينهما يحمل النسر والختم الجمهوري الخاص بالدولة لا سواها وكذا الترويسة الخاص بالدولة وهو حال كل الوثائق الصادرة من الجهة وكذا الأوراق المتبادلة بين طرفي القضية بمناسبة تنفيذ بنود العقد المبرم بين الطرفين، وعلى الرغم إنعقاد الإختصاص النوعي للقضاء الإداري بموجب أحكام سابقة وإحالة محاكم أخرى في أحكامها القضايا للقضاء الإداري كونه صاحب الإختصاص النوعي، وبالتأييد للنصوص القانونية التالية: عملاً بنصوص مواد القانون النافذ رقم (2) لسنة 1990م بشأن شعار الجمهورية وخاتمها الرسمي والذي أوضح في مواده من هي الجهات الرسمية التي تتبع الدولة المخولة قانوناً باستخدامه وأين يتم إستعماله، وذلك في المواد (1،2،3،4،5) منه والتي تنص على :
مادة (1):( يكون للجمهورية اليمنية شعار يتكون من نسر يرمز إلى قوة الشعب وانطلاقه في أفق التحرر باسطاً جناحيه على العلم الوطني مرتكزاً على قاعدة كتب عليها الجمهورية اليمنية -كما نقش به رسم يمثل سد مأرب وشجرة البن باعتبارهما من أبرز خصائص اليمن وذلك وفقاً للنموذج المرافق ويكون هذا هو الخاتم الرسمي للجمهورية اليمنية)،
مادة (2):(يجب في جميع الأحوال أن يكون الشعار مطابقاً للنموذج المرافق لهذا القانون- ولا يجوز أن يطمس المظهر العام للشعار أو التفاصيل الدقيقة التي يتكون منها كما لا يجوز أن تضاف إليه أية رسومات أو خطوط أو زخارف)،
مادة (3): (يتألف خاتم الجمهورية من شعار الجمهورية موضوعاً داخل إطار دائري الشكل وقد نقشت في جانبي الدائرة زخارف عربية الطراز وذلك وفقاً للنموذج المرفق)،
مادة (4): ( ينقش خاتم الجمهورية على أختام الوزارات والمصالح العامة المختلفة مع ذكر اسم الجمهورية اليمنية على جانبي الإطار الدائري أعلا اسم الوزارة أو المصلحة ذات الشأن بين جانبي الإطار الدائري)،
مادة (5):( يستعمل الشعار في جميع المحررات والمكاتبات الصادرة من أجهزة الدولة المختلفة......)، وبالتالي عدم إنطباق على القضية قانون العمل وفق المادة (3/ب/1) من القانون ذاته والتي نصت على أنه :( لا يسري هذا القانون على الفئات التالية:- 1- موظفو الجهاز الإداري للدولة والقطاع العام)، وبالتالي فأن المدعى التابع لأحد الوزارات لا ينطبق عليه تعريف صاحب العمل الوارد في قانون العمل والذي عرفه بما نصه :(كل شخص طبيعي أو إعتباري يستخدم عاملاً أو أكثر لقاء أجر في مختلف قطاعات العمل الخاضعة لأحكام هذا القانون)، أضف إلى ذلك أن المادة (118) من القانون المدني نصت على أن (.....المال العام هو كل مال تملكه الدولة أو الأشخاص الإعتبارية العامة ويكون مخصصاً للمنفعة العامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو قرار....) وهذه المادة أنطبقت على الجهة التابعة للوزارة، مع كل ذلك تم نظر القضية على أنها عمالية وأن الموظف عامل والجهة التابعة للوزارة تخضع للقطاع الخاص (!!)، فالمحكمة خالفت كل ذلك ولم تثر هذه المسألة المتعلقة بالنظام العام لا من قبل المحامين ولا القضاة في كل مراحل التقاضي وصار الحكم بات بل ونُفذ (!!)، وأصبح بعض القضاة يحذو حذو المحكمة العليا في حكمها هذا وكأنه ملزم لها أكثر من إلزامية النصوص القانونية (!!)
حجية حكم المحكمة العليا على دوائرها بينها البين وعلى الدائرة ذاتها الصادرعنها الحكممن المؤكد إنطباق كل ما سبق ذكره وتوضيحه في الجانب الأول من هذه الدراسة على قضاة المحكمة العليا مالم تخصص الحالة في الحديث عن المحكمة الإبتدائية أو الإستئنافيه كحال الإستثنائين الخاص بهما في الإلزامية والحجية لحكم محكمة الأعلى درجة على الأدنى.إلا أن المشرع اليمني في قانوني المرافعات والسلطة القضائية خص قضاة المحكمة العليا في مادتان، حيث تنص المادة (302) من القانون الأول على أنه: (إذا رأت إحدى دوائر المحكمة العليا أثناء نظر إحدى القضايا أن المسألة الشرعية والقانونية الواجب البت فيها سبق صدور أحكام مختلفة بشأنها أو رأت العدول عن إجتهاد قضائي سبق صدوره من المحكمة العليا فعليها رفع القضية إلى رئيس المحكمة العليا لعرضها على الجمعية العمومية للمحكمة العليا مجتمعة بما لا يقل عن ثلثي أعضائها ويصدر حكمها بأغلبية الأعضاء الحاضرين وعند التساوي يرجح الجانب الذي منه الرئيس، وتطبق ذات الأحكام السابقة في حالة صدور حكمين متعارضين من دائرتين مختلفتين من دوائر المحكمة العليا مالم يكن قد صدر الحكم الآخر بناءً على إلتماس بإعادة النظر)، كما تنص المادة (29) من القانون الثاني على أنه: (تختص الجمعية العامة للمحكمة العليا بما يلي: أ- النظر في الدعاوى التي تحيلها إليها إحدى دوائر المحكمة إذا رأت هذه الدائرة العدول عن إجتهاد قضائي للمحكمة العليا)، ومن هاتين المادتين يتضح بجلاء أن المشرع اليمني سلم مسبقاً بإمكانية وإحتمالية ورود تعارض بين دوائر أحكام المحكمة العليا، فظروف وعوامل كل قضية تختلف عن الأخرى فما قد يصح الحكم به في قضية لا يصح في أخرى، وكون قضاة المحكمة العليا بشر والخطأ غير المقصود وارد لضغط العمل على المحكمة ، أضف إلى أنه مع التعديلات الأخيرة لقانون المرافعات والتي أثقلت من كاهل عمل المحكمة العليا وجعلتها تنظر قضايا موضوعياً بعد أن كانت محكمة قانون كأصل وموضوع كإستثناء قبل التعديلات، كل ذلك سيجعل تعارض أحكام العليا وارد وبقوة في الفترة القادمة، أضف إلى أن الإختلاف سنة من سنن الله في الكون وهو للتكامل لا للتقليل من أي رأي أو إجتهاد ما دمت جذوره الشريعة الإسلامية والقانون المستمد أحكامه منها، كما أكدتا المادتان الآنف ذكرهما أن الأصل في القاضي الإجتهاد وكذا عدم إلزامية أحكام المحكمة العليا على دوائرها بينها البين وبالمثل عدم إلزامية حكم الدائرة على نفسها في قضاياه المنظورة لا حقاً لصدور الحكم، لكل الأسباب الواردة في دراستنا المختصرة هذه.
ولا يفوتنا في هذه الدراسة إيراد مثال يعزز ما سبق الحديث عنه، هذا المثال يجمع بين حالة تناقض المحكمة العليا في أحكامها بينها البين بل ومع الدائرة نفسها مصدرة الحكم وكذا حالة مخالفة الحكم لنص قانوني صريح نافذ عُني بتنظيم المسألة محل النزاع والمطلوب إصدار حكم بشأنها، هذا المثال مأخوذ من منشور على مواقع التواصل الإجتماعي للمحامي الدكتور/ يوسف حسن يوسف هبة، فقد قام المحامي الدكتور بإستقراء الأحكام القضائية الصادرة عن المحكمة العليا بجميع دوائرها للفترة من (2007) إلى (2009) بشأن مسألة يومي الخميس والجمعة ومدى تأثيرهما على وقف المواعيد القضائية ، وقد كان للمحكمة ثلاثة إتجاهات متعارضة مع بعضها البعض كالتالي: الإتجاه الأول: يوم الخميس لا أثر له في إيقاف المواعيد القضائية ولا يأخذ حكم يوم الجمعة، (الطعن التجاري رقم (30093) جلسة (30/7/2007م)، وهذا الإتجاه أو الحكم أيدته العديد من أحكام العليا مثل : (الحكم في الطعن التجاري رقم (30190) جلسة (7/8/2007م)، والحكم في الطعن المدني رقم (69636/ ك) جلسة (9/3/2008م)، والحكم في الطعن المدني رقم (34514/ك) جلسة (23/3/2009م) )، الإتجاه الثاني: يومي الخميس والجمعة يعتبران من الإجازات وبالتالي يوقفان المواعيد القضائية، (الطعن التجاري رقم (37822) جلسة (27/6/2009م)، وهذا الحكم مخالف لنص المادة (3/أ) من قانون الإجازات والعطلات الرسمية التي حددت الإجازات والعطلات الرسمية على سبيل الحصر وليس من بينها يوم الخميس، الإتجاه الثالث: يومي الخميس والجمعة ليسا من العطلات الرسمية والقضائية وبالتالي لا يوقفان المواعيد القضائية (الطعن المدني رقم (28863/ ك) جلسة (3/6/2008م)، وهذا الإتجاه خالف القانون الآنف ذكره الذي نص صراحةً على إعتبار يوم الجمعة يوم إجازة في المادة (3) الفقرة (أ/9) وكذا المادة (111) من قانون المرافعات.
ومن اللازم اللازب وجب التنويه أنه قد يثور في ذهن أي مطالع لأحكام المحكمة العليا، وجود مخالفة لأحدها لنص قانوني نافذ أو تعارض بينها البين، على الرغم أن هذا التعارض أو المخالفة في ذهن الشخص المطالع متوهماً ذلك، كونه قرأ حكم للمحكمة العليا ينظم مسألة معينة وأسقط عليها نص قانوني عُني بتنظيمها ثم قرأ آخر ووجد عدول للمحكمة عن ذلك في حكم آخر، وعند التدقيق أتضح أن الحكم الأول صدر في ظل قانون تم تعديله وأن الحكم الثاني موافق لنص قانوني نافذ (بعد التعديل)، لذلك يجب التركيز إبتداءً قبل قراءة أحكام المحكمة العليا على القوانين وتاريخ إصدارها وتعديلها وتاريخ صدور حكم المحكمة العليا .
وبالأخير : أرجو أن أكون وفقت في إثراء موضوع هذه الدراسة، هذا (وفوق كل ذي علم عليم)،،،
* نُشرت في العدد 217 من الصحيفة القضائية.