انعدام الجريمة أو تخلف أحد عناصرها وأثرهما في سلطة النيابة العامة في التصرف في القضايا
انعدام الجريمة أو تخلف أحد عناصرها وأثرهما في سلطة النيابة العامة في التصرف في القضايا
دراسة تحليلية لنص الفقرتين (أ، ب) من المادة (42) أ. ج
د. عُمر يحيى كُـــزابه2024م
مقدمة عامة
الحمد لله العليم الحكيم، والصلاة والسلام على نبينا الصادق الأمين
أما بعد:
فقــد تفرَّد المشرع اليمني في صياغة نص المادة (42) أ.ج المتعلق بالأحــــــــــوال التي يمتنع فيها البدء باستعمال الدعوى الجزائية(تحريكها) أو الاستمـــــرار في إجراءاتها؛ إذ لم يرد مثيلٌ له في التشريع المصري على الرغـــــــم من أن الأخير يعـــــــد مصدرًا له، كما لم أجــــــد نصاً مشابهاً في التشريعات التي قُدِّر لي مطالعتها، ومــــن الإنصاف القول: إن النص المذكـــــور قد جاء متميزًا في دقة ألفاظه وإيجاز جمله وتراكيبه، كل ذلك أعطى لــــه مدلولًا عميقًا، وسأظهر ذلك - بإذن الله - حال مناقشة فقراته الثمان.
ومــــن الجدير ذكره: أن جميع الأحـــــوال المذكورة في نص المادة (42) أ.ج تتعلق بالحق في الدعــــــــــوى ذاته لوروده في الأحكام العامــــة للدعوى الجزائية، ومـــن ثم فإنها تحقق أثرها الإجرائي فور توافرها سواءً قبل بدء استعمال حق الدعوى الجزاائية أو أثنائه، وقـــــــــد أجمل المشرع ذلك الأثر بقوله:" لا يجوز تحريك الدعوى الجزائية ويتعين إنهاء إجراءاتها إذا كانت قــــــد بدأت في إحدى الأحوال الآتية:
أ- عند عدم وجود جريمة.
ب- إذا لم تتوافر عناصر الجريمة.
ج- عدم بلوغ سن المساءلة الجزائية. د- لسبق صدور حكم في القضية غير قابل للطعن.
هـ- لسبق صدور قرار بالأوجه لإقامة الدعوى و استنفاذ طرق طعنه.
و- صدور عفو عام أو خاص.
ز- وفاة المتهم.
ح- بانقضاء الدعوى بالتقادم. "
ومن خلال التأمل وتدقيق النظر في صياغة هذا النص وتحليل إلفاظه تظهر مجموعةً من التساؤلات والملاحظات قد تكون الإجابة عنها مدخلاً لفهم مراد المشرع منه، من أهم تلك التساؤلات:
- من الملاحظ أن المشرع اليمني قد ذكر في الفقرات (أ، ب، ج) أ.ج ثلاثة أحوال هي: أ-عـــــدم وجود الجريمة، ب- عدم توافر عناصر الجريمة، ج- عدم بلوغ سن المساءلة الجزائية، وهذه الأحوال تتضمن أموراً موضوعيةً تتعلق بالجريمة والمسؤلية الجزائية تندرج في مجال قانون الجرائم والعقوبات فما الداعي لإيرادها في القانون الإجرائي؟ وهل ترتب آثاراً إجرائيةً جعلت المشرع يذكرها في قانون الإجراءات الجزائية ويعتبرها من الأحوال التي يمتنع فيها تحريك الدعوى الجزائية أو يتعين معها إنهاء إجراءاتها ؟ وما الفرق بين الفقرتين (أ،ب) أي الفرق بين حال (عدم وجود جريمة) وحال (عدم توافر عناصر الجريمة)؟ وما سن المساءلة الجزائية التي يعد عدم بلوغها مانعاً من تحريك الدعوى الجزائية ضد من لم يبلغها؟ فهل هي سن التمييز أم سن البلوغ أم سن المسؤلية الجزائية الكاملة؟ ولماذا لم يذكر المشرع جنون المتهم بجانب عدم بلوغه المساءلة الجزائية في النص المذكور مع أن كليهما من موانع المسئولية الجزائية وإنما اقتصر على ذكر عدم بلوغ سن المساءلة الجزائية؟
- من التساؤلات التي قد تخطر بالذهن تلك المتعلقة بالفقرة (د) بقولها: " لسبق صدور حكم في القضية غير قابل للطعن"، فلمَ قال المشرع:" حكم في القضية" ولم يقل" حكم في الدعوى"؟ ولماذا اشترط أن يصير الحكم غير قابل للطعن وليس نهائيا ليمتنع بصدوره العودة إلى تحريك ذات الدعوى التي صدر فيها؟ وهل يعني ذلك أن سبق حكم نهائي أو بات لا يمنع تحريك الدعوى الجزائية حتى يستعمل المشرع وصف غير قابل للطعن؟ وهل هناك دلالة لورود لفظ حكم بصيغة النكرة؟
كذلك الحال بالنسبة للفقرة (هـ) فإن صياغتها يكتنفها نوعٌ من الغموض، فما مراد المشرع بقوله: استنفاذ (بالذال) القرار بألا وجه لطرق طعنه؟ وهل تعني استفاد طرق الطعن (بالدال)؟ وفي أية حالة يستنفذ القرار بالا وجه طرق طعنه وتصير له قوة كقوة الحكم الذي لا يقبل للطعن المذكور في الفقرة (د)؟ وهل من الممكن أن يمنع القرار بألا وجه تحريك الدعوى الجزائية بشكل نهائي وتنقضي بصدوره واستنفاذه طرق طعنه كما جاء في المادة مع أن المتفق عليه أن القرار بأألا وجه مانع مؤقت لإيقاف سير الدعوى الجزائية؟
-ما مراد المشرع ب: (العفو خاص) الذي يمتنع بصدوره تحريك الدعوى الجزائية ويتعين إنهاء إجراءاتها إذا كانت قد بدأت؟ ومن الذي يصدره؟ وهل يمنع صدوره تحريك الدعوى الجزائية في كل الأحول م في دعاوى معينةٍ؟ وهل يجوز العفو في الدعوى الجزائية أو لنقل هل من حق المجني عليه التنازل عن الدعوى الجزائية التي بطبيعتها لا تقبل التنازل كقاعدة عامة ولا يجوز للنيابة العامة التنازل عنها؟ وهل العفو الخاص يعني عفو من صاحب الحق الخاص في الجريمة؟
- ما هدف المشرع من إيراد العفو العام في المادة (42) أ.ج مع أنه قد ذكره في المادة (٥٣٩) من القانون ذاته؟ وهل له أثر في الدعوى الجزائية أم أن له أثر موضوعي ينصب على الجريمة؟
-لماذا لم يذكر المشرع قيد أو شرط الإذن في هذا النص الجامع لأحوال منع تحريك الدعوى الجزائية؟
كل تلك التساؤلات تشير إلى أن نص المادة (42) أ.ج ذو مدلولٍ عميقٍ وأنه نص جوهري وجامع ودقيق في صياغته، ولذلك يحتاج إلى مزيدٍ من التأمل، وللقصة بقية.....
والله أٍسال التوفيق والسداد أن يجعل ما قلته خالصاً لوجهه الكريم.
وجود جريمةٍ مفترضٌ لازمٌ لنشؤ الحق في الدعوى الجزائية؛ فمن المعلوم أن الجريمة - كواقعةٍ ماديةٍ- تمثل ركن السبب فيه، وإذا كان ركن الشيء جزءٌ منه، لا قيام له إلا به، وبانعدامه ينتفي وجوده، فمعنى ذلك أن عدم وجود جريمةٍ مؤداه: عدم نشوء الحق في الدعوى الجزائية من حيث المبدأ، ونتيجة ذلك أنه لا يمكن استعماله.وبيان حال انعدام وجود جريمةٍ يقتضي الإشارة إلى العناصر المفترضة لوجود أي جريمةٍ، وبيان أثر تحققه على سلطة النيابة العامة في رفع الدعوى الجزائية، وسيتم ذلك في المطلبين الآتيين:المطلب الأول : حالات انعدام الجريمة.
المطلب الثاني : أثر انعدام الجريمة في التصرف في الدعوى الجزائية.
وقوع فعلٍ منسوبٍ إلى آدميٍ، فلا جريمة إذا لم يرتكب فعلٌ([7])، ونعني بالفعل كمفترضٍ لازمٍ لوجود جريمةٍ: السلوك الإجرامي أيًا كانت صورته، فيشمل النشاط الإيجابي كما يتسع للامتناع([8])، واشتراط نسبة الفعل الإجرامي إلى آدمي أمرٌ تفرضه طبيعة الشريعة والقانون، إذ أن أحكامهما إنما جاءت لتخاطب الآدمي دون غيره من الحيوانات أو الجمادات([9]).
كون الفعل المنسوب إلى آدمي ممنوعًا بحكم الشرع والقانون، أي يوجد نصٌ شرعيٌ أو قانونيٌ يجعل الفعل محظورًا ومُعاقبًا عليه، فلا تقوم الجريمة بفعلٍ مشروعٍ([10])، وهذا النص أمرٌ لازمٌ لوجود الجريمة بحيث لا تقوم بدونه، ومن ثم فإن عدم وروده يجعل البحث في العناصر الأخرى لا مبرر له([11])، وورد هذا النص وإن كان يعد عنصرًا أساسيًا لوجود الجريمة إلا أن وروده لا يعني وجودها في كل الأحوال أيضًا؛ إذ قد يتعرض هذا النص لما يوقف أحكامه حال وروده([12])، وهذا ما سيتم بيانه لاحقًا إن شاء الله.
صدور الفعل غير المشروع عن إرادةٍ جنائيةٍ([13])، ذلك أن الجريمة لا توجد بمجرد وقوع الفعل المادي الممنوع شرعًا، ونسبته إلى أحد الأشخاص، وإنما لابد أن يقترن هذا الفعل بنيةٍ إجراميةٍ "إرادة آثمة"([14])، فالجريمة هي: سلوكٌ محظورٌ، وهي إرادةٌ آثمةٌ، تظهر على هيئة عمدٍ أو خطأ، فإذا انعدم العمد، وانعدم الخطأ بكل مراتبه انعدمت الجريمة تمامًا([15]) ومن ثم فقد انعدمت المسئولية الجنائية، لأن ذلك السلوك لا يعد جريمةً جنائيةً.
البند الثاني: انتفاء المقومات الأساسية لوجود الجريمة: الحالات التي ينعدم فيها وجود الجريمة في التشريع اليمني متعددةٌ؛ نظرًا لانتفاء أحد العناصر الأساسية الداخلة في بنيانها القانوني أو المادي، وبيان تلك الحالات في الآتي:
من المعلوم أن الجريمةٍ لا تقوم إلا إذا توافرت كافة عناصرها، فإذا تحقق بعضها وتخلف أحدها نكون إزاء واقعةٍ لا تتوافر فيها عناصر الجريمة، وإذا تحقق هذا الحال فقد رتَّب المُشرِّع اليمني أثرًا إجرائيًا يتمثل في عدم جواز تحريك الدعوى الجزائية عن تلك الواقعة التي لا تتوافر فيها العناصر التي تطلبها القانون لقيام الجريمة، وإذا تحركت أوجب إنهائها، ولمعرفة متى يتحقق توافر هذا الحال يتعين – بدايةً - توضيح عناصر الجريمة في قانون الجرائم والعقوبات اليمني كمقدمةٍ ضروريةٍ لاستظهار حال انتفاء توافرها، وهذا ما سيتم تناوله في المطلب الأول.
ولما كانت الدعوى الجزائية لا تُرفع إلا على الشخص الذي حقق بسلوكه عناصر الجريمة، أي المنفذ للجريمة والمساهم، فإذا كان هذا السلوك لا ينطوي على كافة عناصر الجريمة، فما أثر ذلك في التصرف برفع الدعوى الجزائية؟ والإجابة عن ذلك في المطلب الثاني؛ وعلى ذلك سيتم تقسيم هذا المبحث إلى المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: عناصر الجريمة وأسباب انتفائها.
المطلب الثاني: أثر تخلف عناصر الجريمة في التصرف في الدعوى الجزائية.
المطلب الأول عناصر الجريمة وأسباب انتفائها
من المتفق عليه: أن الجريمة تقوم على مجموعةٍ من العناصر المادية والمعنوية، ولا يكتمل بنيانها القانوني إلا بتوافرها مجتمعةً، فإن تخلف بعضها تحقق (المانع) محل المناقشة، وهنا نطرح تساؤلاً: ماهي عناصر الجريمة في التشريع اليمني التي جعل المُشرِّع الإجرائي من انتفاء توافرها مانعًا من استعمال الدعوى الجزائية؟
البند الثاني: الأسباب التي تنفي عناصر الجريمة: المقرر في التشريع اليمني أن تحريك أو رفع الدعوى الجزائية يشترط انتفاء توافر الأسباب التي تنتفي معها عناصر الجريمة، وقد نص المُشرِّع اليمني على عددٍ من الأسباب التي تستبعد تلك العناصر، وتتعدد هذه الأسباب تبعًا لارتباطها بعنصر الجريمة الذي تهدمه، وهذه الأسباب هي:أولًا: الأسباب التي تنفي توافر العناصر المادية للجريمة: وتتمثل في الأسباب الآتية:
المطلب الثاني أثر تخلف أحد عناصر الجريمة في التصرف في الدعوى الجزائية إذا كانت الواقعة لا تنطوي على كافة العناصر اللازمة لتمام الجريمة، لم يعد ثمة داعٍ للعقاب عليها، ومقتضى ذلك انتفاء مبرر رفع الدعوى الجزائية، وذلك يستدعي البحث عن أثر انتفاء عناصر الجريمة في رفع الدعوى الجزائية، وسأبين في البندين الآتيين:
البند الأول: منع تحريك أو رفع الدعوى الجزائية لانتفاء عناصر الجريمة: إذا لم تتوافر عناصر الجريمة في الواقعة فلا يُعاقب عليها، ويتعين عندئذٍ إنهاء إجراءات الدعوى الجزائية بشأنها، ووسيلة النيابة العامة في ذلك هي:الأمر بحفظ الأوراق لعدم الجريمة: إذا رأت النيابة العامة أن لا مجال لتحريك الدعوي الجزائية لعدم توافر عناصر الجريمة، يتعين عليها أن تأمر بحفظ الأوراق لعدم الجريمة، وذلك يشمل كل الظروف التي تدخل على أحد أركان الجريمة فتعدمه، ومثال ذلك موانع المسئولية([63])، وتقوم النيابة العامة بحفظ الأوراق في حالة عدم اكتمال عناصر الجريمة.