#اعرف_حقك_وقانونك⚖️🇾🇪
المستشار/ د. صالح عبدالله المرفدي عضوٍ المحكمة العليا للجمهورية
#تمهيد:
تعتبر جريمة القتل بالامتناع أو الترك، أو كما يطلق عليها من قبل بعض الفقهاء (القتل بطريق سلبى)، هي أحد نتاجات تطور المجتمع، وتزايد ارتكاب هذة الجريمة في الفترة الأخيرة، وادى ذلك الى إفلات عدد كبير من المجرمين من العقاب؛ بسبب قلّة إهتمام المشرّع بذلك مقارنة بالجرائم الإيجابية، مع عدم وجود نص صريح فى بعض القوانين، بشأن العلاقة السببية بين الامتناع والنتيجة الإجرامية.
وعلى هذا الآساس، فإن القتل أو الإيذاء بالامتناع، يوازى ما يقع منه بالفعل الإيجابى، فقتل الأم لوليدها خنقاَ قد يكون أرحم من منع الطعام عنه والشراب لمدة قد تطول حتى الموت، وقتل الممرضة لمريضها بالسم أو بالخنق أو بآلة حادة، قد يكون أخف وطأة من منع الدواء عنه، والمتأمل فى هذه الأمثلة يجد أن النتيجة واحدة، إلا أن إحداها تطول مدته فيزيد فيها العذاب والأخرى عكس ذلك.
- وفي هذا الإطار، وضع سؤال لأحد الزملاء، ونصه كالاتي: موظف للدفاع المدني، أمتنع عن إنقاذ شخص من وسط الحريق، وكان يستطيع ذلك، والنتيجة وفاة الشخص.. فماهي المسؤولية الجنائية للموظف المدني؟؟
ومن هذا المنطلق، ولأهمية هذا الموضوع، فإن الاجابة على هذا التساؤل، يقودنا للحديث عن جريمة القتل بالامتناع أو بالترك، الذي يجب أن تناولها في دراسة مختصرة من ثلاثة محاور: نتطرق في الأول لمدلول جريمة القتل بالامتناع وصوها واركانها، ونستعرض في المحور الثاني موقف الفقة الاسلامي، ونخصص الثالث لموقف التشريعات العربية والتشريع اليمني، ونختم الدراسة بالنتائج والتوصيات المطلوبة قدر الإمكان.
١- مدلول الجريمة السلبية:
تعرّف الجريمة السلبية بأنها: "إحجام شخص عن إتيان فعل إيجابي معين، كان الشارع ينتظره منه في ظروف معينة، بشرط أن يوجد واجب قانوني يلزم بهذا الفعل، وأن يكون في استطاعة الممتنع عنه أدائه).
- ومن المعلوم، أن السلوك الاجرامي المكون للركن المادي لآي جريمة، اما أن يكون إيجابيا أو سلبيًا، و تبعًا لذلك، انقسمت الجرائم من حيث مظهر السلوك الى جرائم ايجابية وجرائم سلبية، فالجريمة الإيجابية، هي تلك الجريمة التي يكون السلوك المكون لركنها المادي إيجابيًا كارتكاب جرائم السرقة والقتل والضرب ….الخ.
اما الجرائم السلبية، فهي تلك الجرائم التي يكون السلوك المكون للركن المادي فيها سلبيًا، أي امتناعا عن عمل يأمر القانون بالقيام به، كمعاقبة من يمتنع عن أداء الشهادة، أو حلف اليمين قانونية، وليس للتفرقة بين الجرائم الإيجابية والجرائم السلبية أهميه كبيره من الناحية العملية، الا في موضوع الشروع، حيث لا يتصور الشروع في الجرائم السلبية؛ لان هذه الجرائم أمًا أن تقع تامه او لا تقع.
٢- مدلول جريمة القتل بالامتناع وصورها:
الأصل فى القتل أن يقع بفعل إيجابى، وقد ثار التساؤل: هل يقع القتل بالامتناع مثل الأم التى تمتنع متعمدة عن إرضاع صغيرها حتى يموت، والممرضة التى لا تعطى متعمدة الدواء للمريض حتى يموت، أو رجل الإطفاء الذى يمتنع عن إنقاذ الشخص الذى حاصرته النيران بقصد قتله، حيث ذهب الرأى الراجح من الفقه الجنائى، إلى أنه يقع القتل بالامتناع مثل القتل بفعل ايجابى، إذا كان الجانى قد أخلّ بالتزامات قانونية أو تعاقدية بالتدخل؛ لإنقاذ حياة المجنى عليه من الموت.
ويترتب على ذلك، أن الأم التى تمتنع عن إرضاع طفلها، أو عن قطع حبله السرى بقصد قتله، تسأل عن قتله عمد، كما يسأل عن القتل العمد كذلك، من يعهد إليه برعاية مريض عاجز عن الحركة، فامتنع عمدًا عن تقديم الطعام والدواء له فمات، ومعلم السباحة الذى أمتنع عمدًا عن إنقاذ تلميذه فغرق، وفى مثل هذه الحالات وغيرها، نكون إزاء اعتداء على حق الإنسان، أو بالأحرى المجنى عليه فى الحياة، فيسأل الممتنع عن جريمة القتل العمد، طالما توافر لديه قصد القتل، أى إرادة إزهاق روح المجنى عليه، فإذا انتفى القصد من مسلكه، فإنه يعد قاتلا بإهمال.
- لكن بالمقابل، ليس كل امتناع يؤدي الى وفاة المجني، يعتبر قتلا بالترك؛ طالما أن التارك أو الممتنع غير ملزم بواجب قانوني، وكان موقفه السلبي يتعارض فقط مع ما تقتضي به الشهامة والمرؤة، فلا يعد مسؤولًا عن النتيجة التي ترتبت على موقفه السلبي، وإذا عاقب القانون في هذه الحالة، فإنما يعاقبه على مجرد امتناعه عن بذل المساعدة، بغير نظر الى النتيجة التي وقعت، كما لو شاهد شخص ينازع الغرق، فامتنع عمدًا وبقصد القتل عن انقاذه من الغرق، والمراد بالواجب هو كل واجب يترتب على التزام قانوني، سواءً كان مصدره القانون، أو الاتفاق، أو نشاء عن حاله أنشأها الجاني نفسه.
أ- إمتناع عن فعل يفرضه القانون أو الواجب للقيام به.
ب- نتيجة اجرامية هي الوفاة.
ج- علاقة سببية بين الامتناع وحدوث الوفاة، بحيث يثبت بأن الوفاة لم تكن لتحدث، فيما لو قام الجاني بالفعل الذي أمتنع عنه، فامتناعه عن القيام بالفعل هو الذي سبب الوفاة.
القتل بالامتناع يتطلب توافر نية القتل لدى الفاعل؛ لمساءلته عن جريمة قتل مقصودة، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود صعوبة في إثبات هذه النية والقصد الجرمي، كونه لا يوجد فعل مادي ملموس يمكننا من خلاله الكشف عن نوايا الفاعل الحقيقية.
- وغني عن البيان، أن الشخص عندما لا يكون عليه التزام قانونى أو تعاقدى بالتدخل؛ لإنقاذ حياة المجنى عليه، فإنه لا يسأل عن القتل العمد، حتى لو توافر لديه القصد الجنائى، كما لا يسأل كذلك عن القتل مع الإهمال، وعلى ذلك، لا يعد قاتلًا من يرى ضريرا يسير بالقرب من حفرة فلا يحذره، وترتب على ذلك، أن سقط فيها ومات، كما لا يعد قاتلًا من يرى شخصا يشرف على الغرق، أو إنسانًا تحيط به أو حاصرته النيران ولا يتقدم لإنقاذه، إذ أن القانون لا يفرض على الناس الشجاعة ولا التضحية، خصوصًا إذا اقترنت بقدر من المخاطرة ولو يسير.
موقف الفقة الإسلامي:قد يعتقد البعض منا "بل والكثيرين"، أن الجرائم السلبية لا سيما جرائم القتل بالامتناع أو الترك، أنها من باب قضاء الله وقدره، وهي كذلك ولاشك في هذا الأمر، لكن علينا العمل بالأسباب، عملا بقولة تعالى: (انَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا).الايه٨٤ و ٨٥ س/ الكهف. ولتوضيح ذلك، حريًا بنا التطرق الى مسائل أختلاف الفقهاء، حول تكييف القتل بالترك أو الامتناع، حيث كان الخلاف على عدة أقوال، آخذين مثالًا على ذلك، "جريمة المنع من الطعام والشراب"، ويمكن تلخيص أقوالهم على هذا النحو بالاتي:
- القول الأول للشافعي:يعتبر الحبس مع منع الطعام والشراب قتلاً عمدًا، إذا مات المحبوس فى مدة يموت فى مثلها غالبًا، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال.
- القول الثاني لأبو حنيفة:لا يرى مسئولية الفاعل؛ لأن الموت حصل بالجوع والعطش لا بالحبس، والجانى لم يفعل إلا الحبس، ولكن "أبى يوسف ومحمد"، يعتبران الجانى قاتلاً شبه عمد؛ لأن الجانى منع بفعله الطعام والماء عن المجنى عليه ولا حياة له بغيرهما، فهو الذى أهلكه بمنعه، ولكنهما لا يعتبران القتل عمدًا؛ لأنهما لا يريان فى الحبس وسيلة معدة للموت.
- القول الثالث للأمام مالك:ويرى أن الامتناع فى كل حال قتلاً عمدً؛ ما دام أنه قد صدر على وجه العدوان.- أمًا القول الرابع فهو للحنابله:ولهما رأيين، الاول/ يرى أن القتل عمد؛ لأن الحبس أهلك المحبوس، فهو كما لو ضرب المريض ضربًا يهلكه. والثانى/ يعتبر القتل شبه عمد؛ لإنتفاء قصد الإهلاك، إذ الفاعل لم يأت بفعل مهلك.
- ومن خلال ما سبق من آراء للفقهاء، يتضح بجلاء أن إغاثة الملهوف فرض عيني، متى كان الشخص قادرًا على ذلك، وأن التقاعس عن تقديم واجب الإغاثة جُرم محض وإثم عظيم، وشر مستطير، نصت على ذلك كافة الأديان السماوية، وفي هذا الشأن، يقول (الأمام الشوكاني): "لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل".
كما أن من أندفع لإنقاذ نفس إنسانية في مهلكة، وأدى ذلك إلى موته أو هلاكه فهو شهيد، تجري عليه أحكام الشهادة، وأن من أنقذ نفسًا في مهلكة، كمن أحيا الناس جميعا، عملًا بقوله تعالى: " وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا " المائدة :(32)
- ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يعد المتقاعس عن إنقاذ المستغيث مرتكبا لجريمة قتل بالترك على النحو الذي يعبر به فقهاء القانون؟ ونجيب، بأننا مع إتفاق الفقهاء على حرمة التقاعس، وإثم ترك نجدة المستنجد، إلا أن الفقهاء اختلفوا في كون هذا السلوك السلبي، مكونا لجريمة القتل من عدمه، فيرى جمع من الفقهاء أن ترك الإغاثة –مع القدرة- لا يرتقي إلى أن يكون جريمة قتل بالترك، وتبعًا لذلك، لا يوجبون على هذا الشخص ضمانًا، ويعللون ذلك، بأنه لم يقتل المجني عليه بطريق مباشر، ولا بطريق التسبب، وفي هذا الخصوص، يقول (الامام ابن عابدين) مبينًا موقف بعض الفقهاء، من عدم إنقاذ ركاب سفينة أشرفت على الغرق لمن يقدر عليه بقوله: "ويعلل عدم تضمين الممتنع عندهم، بأنه لم يهلك أهل السفينة، ولم يكن سببا في غرقهم، فلم يضمنهم، كما لو لم يعلم بحالهم". لكن (المالكية ورأي من الحنابلة)، يرون أن الممتنع مع القدرة، يعد مرتكبًا لجريمة قتل بالترك، وبالتالي يلزمه الضمان؛ لأنه لم ينج أهل السفينة من الهلاك مع إمكانه ذلك فيضمنهم .
- وفي الإجمال، "يبدو لنا والله أعلم"، أن ما ذهب إليه المالكية وبعض الحنابلة، هو الأولى بالقبول؛ لأن من شأنه أن يكرس لثقافة الإغاثة في المجتمعات، وينمي الشهامة في عقول وقلوب الشباب، ويعمل على تحقيق اللحمة الوطنية بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن أديانهم أو عقائدهم، ولمواجهة الخارجين على القانون، والمجتمع، فضلًا عن الخارجين على نظم الدول وقوانينها.
موقف التشريع المصري واليمني:-
الفرع الاول:
موقف التشريع المصري:
لايوجد نص صريح في قانون العقوبات المصري، على إعتبار هذه الجريمة عمدية.
اما الرأي الراجح من شراح الفقه الجنائى، فذهبوا إلى أنه يقع القتل بالامتناع مثل القتل بفعل إيجابي، شرط آن يكون الجانى قد أخلّ بالتزامات قانونية أو تعاقدية بالتدخل لإنقاذ حياة المجنى عليه من الموت، كما تشدد بعض الفقهاء، و وضعوا شرط توافر قصد القتل لدى الجاني، بمعنى لا يكفي اخلاله بالالتزام المفروض على عاتقه، بل يجب آن تتجه إرادته الى إزهاق روح المجنى عليه، فإذا انتفى القصد من مسلكه، فإنه يعد قاتلًا بإهمال.
- وفيما يتعلق بموقف القضاء المصرى، فإن الحالات التى عرضت عليه نادرة، يصعب معها إستنباط إتجاه قضائى عام، ومن ذلك ما قضت به محكمة جنايات (الزقازيق)، ببراءة أم متهمة بالقتل العمد، كانت قد تركت وليدها يهلك بعد ولادته مباشرة، فهى –على حد قول المحكمة– لم ترتكب عملًا إيجابيًا يستفاد منه قصد القتل، بينما قرر قاضى الإحالة بمحكمة (المنيا)، فى حادثة أم لم تربط الحبل السرى لوليدها حتى مات، إعتبار الواقعة جنحة قتل خطأ؛ لأنه رجّح إنتفاء القصد الجنائى لديها. وفى إحدى القضايا الاخرى، ذهبت محكمة النقض إلى أن تعجيز شخص عن الحركة بضربه ضربًا مبرحا، وتركه فى مكان منعزل محروما من وسائل الحياة بنية القتل، يعتبر قتلا عمدًا؛ متى كانت الوفاة نتيجة مباشرة لتلك الأفعال. ويرى شراح الفقه المصري، أن هذا الحكم لا يعد سابقة مؤكدة تدل على اعتناق محكمة النقض الاتجاه السائد فى الفقه، فقد اختلطت أو تداخلت الأفعال والمواقف السلبية المسندة إلى المتهم، مع أفعال إيجابية متعددة، وكلها كان لها دورها الواضح فى إحداث الوفاة.
-الفرع الثاني:
موقف التشريع اليمني:
يقُرّ القانون اليمني بتحقق جريمة القتل بالامتناع أو الترك، حيث نصت الماده (٧) عقوبات بالاتي: "لا يسأل شخص عن جريمة يتطلب القانون لتمامها حدوث نتيجة معينة، إلا إذا كان سلوكه فعل أو (امتناعا)، هو السبب في وقوع هذه النتيجة". وبلاشك ان هذا نص صريح يقر بامكانية وقوع أي جريمة بفعل سلبي (الامتناع أو الترك). لكن بالمقابل، هناك نصين يتعلقا بتكييف هذا الامتناع، ويتأرجح بين القصد العمدي "الاحتمالي"، أو القصد غير العمدي "باهمال واعي"، وهما:-النص الاول: الذي ورد في الفقره الثانيه من الماده (٩) عقوبات ونصّت بالاتي: "ويتحقق القصد الجنائي كذلك، إذا توقع الجاني نتيجة إجرامية لفعله، فاقدم عليه قابل حدوث هذه النتيجة".- والنص الثاني: الذي ورد في الفقرة الثانيه من الماده (10) عقوبات، ونصّت بالاتي: "ويقع الخطأ غير العمدي، إذا تصرف الجاني عند ارتكاب الفعل علـى نحـو لا يـاتيه الشـخص العـادي، إذا وجد فـي ظروف بـان اتصف فعله بالرعونة أو التفريط أو الاهمال أو عدم مراعاة القوانين واللوائح".
- ويستفاد من هذة النصوص القانونية السابقة، أن المشرع اليمني قد حَسَمَ المسألة، وساوى بين نوعي السلوك (الإيجابي والسلبي)، فتقع جريمة القتل بالترك أو بالامتناع، ويرتب عليها القانون اليمني المسئولية الجنائية على مرتكبها بسبب الإحجام عن إتيان سلوك معين، كان من شأن القيام به الحيلولة دون تحقق النتيجة التي يجرمها القانون، ويترتب على الامتناع حدوث النتيجة التي يحظرها هذا القانون، دون أن يصدر عن الشخص أي سلوك إيجابي. وفي تقديرنا "المتواضع"، أن ما ذهب إليه المشرع اليمني، يتوافق تماماً مع الرأي الراجح مع غالبية التشريعات العقابية المعاصرة، كما أنه إتجاه تفرضه السياسة العامة لمكافحة الجريمة والتي بمقتضاها، يجب عدم ترك اية فسحة للجناة كي يتخلصوا من العقاب، بدعوى أن ما قاموا به (امتناعاً) وليس (فعلًا إيجابياً)، وبهذا النص أصبحت الوسائل جميعها مجرمه بنظر المشرع، سواءً سلبية كانت أم إيجابية، على الرغم أن الواقع المعاش يثبت أن بعض قضايا القتل بالترك لا تقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية؛ بمبرر القضاء والقدر!
- وبالنسبه لموقف القضاء، نجد أن هناك حكم قديم لاحدى المحاكم اليمنية، في وقائع قضية تتلخص في أن آحد الاخوة الكبار، ترك اخته الصغيره والمصابة بعاهة في عقلها لاشهر حبيسة في حجرتها، لا يدخلها الضوء ولا الهواء قعيدة، وفي حالة من القذارة والبؤس؛ حتى أصبحت حياتها مهددة بالخطر، الا أن المحكمة الابتدائية، لم تقتنع بتجريم هذا الفعل، وقضت بأن جريمة الايذاء لا تقوم إلا مستندة إلى فعل إيجابي، وإن كان مسلك المتهم معيباً، إلا أنه مع هذا لا يقع تحت طائلة العقاب، ثم وجدت المحكمة نفسها مضطرة إلى الحكم بالبراءة، بيد أن محكمة الاستئناف قد تداركت هذا الخطأ، وعدلت الحكم على المتهم بإدانته بارتكاب جريمة "الايذاء بالامتناع أو بالسلب" من جانب الاخ، واستنادًا لنص المادة (٢٤٤ عقوبات)، وقررت أن هذه الجريمة كما ترتكب بالفعل ترتكب بالامتناع.
١- النتائج: نستنتج من كل ما سبق ذكره الاتي:
أ- أن جريمة القتل بالترك أو الامتناع، يمكن أن تتحقق بأي صوره، فجوهر هذة الجريمة هو وجود واجب يفرضه القانون، بإنزال العقاب على مجرد الامتناع عن القيام بفعل معين، فإذا تحقق الامتناع أو الإحجام عن القيام بهذا الواجب أو الالتزام، قامت الجريمة.
ب- أن القانون الجنائي والعقابي على وجه الخصوص قواعده آمره، وعندما يأمر بإتيان عمل، يكون الامتناع عن إتيانه جريمة سلبية، وعلى هذا الاساس، تكون الجريمة إما ايجابيه، كجرائم القتل والإصابة الخطأ، أو سلبية كامتناع رجل الإسعاف أو المطافئ عن إغاثة أحد الاشخاص بقصد قتله.
ج- الملاحظ أن نصوص جرائم القتل بقانون العقوبات، لا تُحدد شكل السلوك الذي تقع به الجريمة ولا طبيعته، وإنما تُعاقِب على كل سلوك ينشأ عنه موت، لذلك، فإن الحقيقة تؤكد أن القتل يمكن أن يتحقق بالترك أو الامتناع.
د- لا تقوم جريمة القتل بالترك، الا في حال الامتناع المؤثم، الذي يقوم على عناصر ثلاثة: الاول/ الأحجام عن إتيان فعل إيجابي معين. والثاني/ وجود واجب قانوني يلزم بهذا الفعل. والثالث/ استطاعة أداء هذا الفعل.
٢- التوصيات:
أ- نشدد على دور النيابة في تقديم مايثبت توافر العناصر الثلاثه للركن المادي المشار اليها أنفا، والأصعب من هذا، دورها في إثبات توافر الركن المعنوي، المتمثل بنية الجاني بين القتل العمد بقصد إحتمالي، أو نيته بالقتل الخطأ بأهمال واعي.
ب- ندعو المحاكم الجزائية الى ممارسة دورها الايجابي في استخلاص نية القتل، وذلك بالتعرف عليها من وقائع القضية؛ ذلك أن قصد القتل أمر خفيّ لا يدرك بالحسّ الظاهر، وإنما يُدرك بالظروف المحيطة بالدعوى، والإمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني، لذلك، فإن إستخلاص هذه النية من عناصر الدعوى، موكول لقاضي الموضوع في حدود سلطته التقديرية.
ج- نوصي المشرع اليمني بإفراد نص مستقل لتجريم واقعة (الامتناع عن إغاثة ملهوف)، والمنصوص عليها صراحة في أغلب التشريعات العقابية العربية، ولا يشترط أن يكون الفاعل ملزم بقوة القانون أو بالتعاقد بالقيام بهذه الإغاثة، شرط تحقق هذه الجريمة، بوقوع كارثة أو حادثة تهدد حياة شخص أو صحته، وعدم تقديم الشخص العون بنفسه، أو طلبها من الغير مع قدرته على ذلك، وأخيراً أن يكون هذا الامتناع بعلم وارادة الممتنع.
- الجدير بالإشارة، آن أغلبية التشريعات العربية تعاقب على جريمة الامتناع عن اغاثة الملهوف، وهي في المجمل، عبارة عن إحجام شخص عن إتيان فعل إيجابي معين، وكان المشرع ينتظره منه في ظروف معينة، أن يوجد واجب قانوني يلزمه بهذا الفعل، وأن يكون الممتنع بأستطاعته القيام بدفع هذا الخطر، أياً كان نوع الخطر غرقاً أو فيضاناً أو حريقاً أو صعقاً أو إختناقاً أو إصابةً أو مرضاً مفاجئاًً أو محاولة قتل. كما هو الحال في نص المادة ٣٧٠ ع/ عراقي، والمادة ١٨٢ ع/ جزائري، والمادة ٤٧٤ ع/ اردني، والمادة ٣٠٤ ع/ بحريني، الأمر الذي أوصينا بإضافة نص تجريمي في هذا الخصوص.
هذا والله أعلم، وهو الموفق للصواب.