#اعرف_حقك_وقانونك⚖️🇾🇪
المستشار/ د. صالح عبدالله المرفدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
أن مهنة الطب تُعتبر من المهن الإنسانية النبيلة، البالغة الأهمية والخطورة، فالطبيب يمارس مهنة إنسانية نبيلة، الهدف منها متعلق بحياة الإنسان وسلامته الجسدية وصحته النفسية، والتي تعد من أهم وأثمن ما يحرص الشخص والمجتمع على حمايتهم. وفي سبيل ذلك يقوم الطبيب ومن في حكمة، بالكشف السريري وصولاً إلى تشخيص المرض، وإنتهاءً بالمعالجة للحصول على النتائج.. ولتحقيق ذلك، يحتاج إلى قدر كبير من الحرية والاجتهاد والثقة، حيث أن الطبيب وحده من يتخذ القرار المناسب، ويسلك السلوك الذي يضمن إنقاذ المريض ويحقق سلامته، وعليه يكون مسئولا عن أدنى خطأ، يصدر منه يكون سببه الإهمال، أو عدم الحرص، أو عدم تقديم العناية اللازمة للحالة المرضية.
- وعلى الرغم من التطور المذهل في علم الطب، والذي كان له الدور الكبير في شفاء كثير من الأمراض، غير أن هذا التطور صاحبه مخاطر وآثار سيئة؛ بسبب الأخطاء الطبية التي تفاقمت، وأصبحت تشكل قلقًا لكثير من الدول، والتي تدعوا إلى ضرورة إفراد المسؤولية بتشريعات خاصة لحماية المريض؛ باعتباره الطرف الضعيف في الرابطة العقدية التي تنشأ بينه وبين الطبيب، خصوصًا في اليمن؛ حيث تشهد تزايد مضطردًا في الأخطاء الطبية المرتكبة، والتي تؤدي حتما إلى إلحاق الضرر بالمرضى وذويهم، بسبب ضعف التشخيص العلاجي الناتج عن عدم مواصلة الجهات التعليمية والصحية، برفع قدارت الكادر الطبي والفني والإداري.
- وفي هذا البحث، نتناول هذا الموضوع في ستة مطالب: نتطرق في الأول لمدلول وطبيعة الالتزام والخطأ الطبي، ونستعرض في المطلب الثاني أهم نماذج صور الخطأ الطبي في الواقع التطبيقي، ونتحدث في الثالث لواقع الأخطاء الطبية في اليمن، ونعالج في المطلب الرابع المسؤولية الإدارية عن الخطأ الطبي، وندرس في الخامس المسؤولية المدنية للخطأ الطبي، ونخصص المطلب السادس للمسؤولية الجنائية، ونختم البحث بوضع رأينا المتواضع، مع طرح بعض المقترحات والتوصيات قدر الإمكان.
مدلول وطبيعة الالتزام، والخطأ الطبي ونقسم هذا المطلب الى فرعين:
نتناول في الأول مدلول الخطاء الطبي، ونتطرق في الفرع الثاني لطبيعة الالتزام والخطاء الطبي.
الفرع الاول
مدلول الخطأ الطبي
إن مدلول الخطا الطبي في فقة القانون، لايقتصر على عمل الطبيب (بمفهومة الضيق)، الذي يعالج المريض بشكل مباشر، وهو مايعرف بخريج كلية الطب، بل يشمل (المفهوم العام) لكل من يمارس مهنة التطبيب والمهن الصحية الملحقة، كمهن التخدير، والصيدلة، والتمريض، ونحو ذلك من التخصصات المتعارف عليها.
وقد ذكر الفقه القانوني عدة تعريفات للخطأ الطبي ابرزها: "بأنه الخطأ الذي يرجع إلى الجهل بأمور فنية، يفترض في كل من يمارس المهنة الإلمام بها، أو كان هذا الخطأ راجعا إلى الإهمال، أو عدم بذل العناية اللازمة".
وفي تعريف أخر من الفقهاء بأنه: "كل مخالفة أو خروج من الطبيب ومن في حكمة في سلوكه، على القواعد والأصول الطبية المتعارف عليها نظريًا وعلميا، أثناء تنفيذ العمل الطبي، أو إخلاله بالحيطة والحذر اللتين تفرضهما واجبات المهنة، بسبب الإهمال أو قلة الخبرة والكفاءة".
- ومن نافلة القول، آن طبيعة مهنة الطبيب ومن في حكمة، يجعله يتعامل مع الكيان الإنساني، مما يلزمه أن يتم هذا التعامل في إطار قواعد فنية، يجب مراعاتها في ممارسة مهنة الطب، فمن ألتزم بها كان في مأمن من العقاب والمسؤولية، أما من أنحرف عنها، فإنه يعرض نفسه للمساءلة القانونية. ولاشك أن مشكلة الأخطاء الطبية، لم تعد مشكلة مهنية محصورة ضمن كوادرها في الساحة الطبية، بل هي مشكلة إجتماعية تحوز على أهمية خاصة لدى جميع فئات المجتمع وشرائحه، وبما أن تحديد مسئولية الطبيب الجنائية والمدنية والإدارية، من الأمور الفنية الدقيقة والمعقدة والمتشعبة، لذلك لابد من معرفتها وتسليط الضوء حول طبيعة الالتزام الطبي بشكل أكثر وضوحًا.
طبيعة الالتزام الطبي
يثور التساؤل دومًا: هل الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب، هو التزام ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة؟؟ للإجابة على هذا التساؤل، ينبغي أن نحلل هاذين الالتزامين، لكي نفهم طبيعة الالتزام الطبي.
الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب ومن في حكمة، هو من حيث المبدأ إلتزام ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة، ويكون ذلك في بذل الجهود الصادقة واليقظة، التي تتفق والظروف القائمة والأصول العلمية الثابتة، بهدف شفاء المريض وتحسين حالته الصحية، فعلى الطبيب العناية بالمريض العناية الكافية، و وصف العلاج المناسب لشفائه من مرضه، حتى لو ساءت حالة المريض الصحية، مادام أنه لم يقع في خطأ يمكن أن يترتب عليه المسئولية.
اولا/ مدى التزامة بالقواعد المهنية.
وثانيا/ طبيعة المستوى المهني للطبيب.
وثالثا/ طبيعة الظروف الخارجية التي يوجد فيها الطبيب لمعالجة المريض،
اما رابعا فهو/ أن تكون الجهود المبذولة من الطبيب، متفقة مع الأصول العلمية الثابتة.
وبما أن الطبيب غير ملزم بتحقيق نتيجة معينة وهي شفاء المريض، وإنما ملتزم بمراعاة الحيطة والحذر، وإتباع أصول المهنة، ولكي ينفذ الطبيب التزامه بالعناية، يلزمه القيام بتشخيص المرض، ثم اختيار طريقة العلاج، ثم التدخل الجراحي.
كما أنه من المتفق عليه بين الأطباء، أن العملية الجراحية يجب أن تمر بثلاث مراحل هي: مرحلة الإعداد للعملية، ثم مرحلة إجراء العملية، ثم مرحلة الرقابة والإشراف، وأخيرًا تحرير الوصفة الطبية.
إذا كانت القاعدة أن التزام الطبيب ومن في حكمة، هو التزام ببذل عناية، إلا أنه في حالات استثنائية يقع على عاتق الطبيب التزام بتحقيق نتيجة، تتمثل في سلامة المريض، وهذا لا يعني الالتزام بشفاء المريض، بل بأن لا يعرضه لأي أذى من جراء ما يستعمله من أدوات أو أجهزة، أو ما يعطيه من أدوية، وأن لا ينتقل إليه مرضا آخر نتيجة العدوى بسبب المكان، أو بسبب أخر، ومن هذه الحالات لا الحصر:
أولا/ عمليات نقل الدم.
ثانيا/ طريقة استخدام الأدوات والأجهزة الطبية.
ثالثا/ إتباع الإجراءات السليمة لتركيب الأعضاء الصناعية.
رابعا/ إتخاذ الطرق العلمية للتحصين.
خامسا/ صرف الأدوية بطريقة علمية.
سادسا/ القيام بكل ما من شأنة بالسلامة في جراحات التجميل.
- وحريًا بنا التطرق، للمحظورات التي ذكرها القانون رقم (26) لسنة 2002م، بشأن مزاولة المهن الطبية والصيدلانية، حيث نص على المحظورات على مزاولي المهن الصحية في المادة (21)، ورتبها في (14) فقرة للمحظورات على الأطباء والصيادلة، كما صرحت المادة (22) بوجوب الحصول على موافقة المريض، أو ولي أمره قبل إجراء أي تدخل طبي إلا في الحالات الطارئة.
اما المادة (23) فقد نصت على ضرورة الحفاظ على أسرار المهنة، وعدم إفشاء أسرار مرضاهم إلا للمريض أو أحد أقاربه. وبين الفصل الخامس من المواد (24 وحتى المادة 32) من نفس القانون، شروط وضوابط إجراء العمليات الجراحية، وكذا نقل وزرع الأعضاء والأنسجة، بالإضافة الى طرق أخذ العينات والفحوصات.
أهم نماذج صور الخطأ الطبي ونتناول في هذا المطلب، أهم صور الأخطاء الطبية المتعارف عليها، وأبرزها كما يلي:
- الصورة الأولى/ الخطأ الطبي في إعلام المريض ورضائه:
إن اشعار المريض يتضمن الفائدة من العلاج، وفي نفس الوقت إبلاغه عن أي مخاطر أو حوادث متوقعة، أو توابع العملية الجراحية، كل ذلك في سبيل أخذ الموافقة والرضاء من المريض باقتناعه وارادته. ويشمل الإعلان بوجوب قيام الطبيب بإعلام المريض بالحوادث التقنية المحتملة، والتوابع التي يمكن أن تنتج عن علاج المريض.
ويجب الإشارة في هذا الخصوص، أن إعلام المريض يعتبر التزامًا على الطبيب وحقا للمريض؛ لغرض استخلاص رضاءه بصورة قانونية سليمة، دون شبهة تدليس أو غش أو حيله.
- الصورة الثانية: الخطأ في عملية الفحص:
تقتضي الأصول الطبية إجراء فحوص أولية؛ لمعرفة حالة المريض قبل وصف أي دواء، فإهمال الطبيب لهذه الأصول الفنية، تعرّضه الى ارتكاب خطأً طبي.
وقد يعفى الطبيب احياناً من المسؤولية عن عدم قيامه بالفحوص الأولية؛ لسرعة الحالة المعروضة عليه، والتي استدعت التدخل الجراحي الفوري، فأهمية السرعة في هذه الحالة قد تتعدى أهمية القيام بإجراء الفحوص، وفي كل الأحوال، يساءل الطبيب عن كل الأضرار التي تنشأ من جراء خطئه و عدم احترازه، مع الأخذ بعين الاعتبار حسن النية لدى الطبيب لتخفيف المسؤولية.
- الصورة الثالثة: الخطأ الطبي في التشخيص:
يعرّف الفقه التشخيص بإنه: "البحث و التحقق من نوع المرض الذي يعاني منه المريض، لأجل كشف موقع المرض، ونوعه، ومدى خطورته". فعملية التشخيص لها أهمية خاصة باعتبارها مرحلة تسبق مراحل العلاج. وفي هذا الشأن، إذا كان الخطأ في التشخيص يشكل جهلًا فاضحا للمبادئ الأولية للطب المتفق عليها، فانه يكون خطأً بإهمال واعي، وتكون مسؤوليته أشد، اما إذا كان الخطأ ينطوي على إهمال غير واعي من قبل الطبيب، فتكون مسؤوليته أخف. لذلك يجب على الطبيب الأخذ بالحسبان عن السوابق المرضية، والتأثيرات الوراثية، وأن يقوم بالعديد من التحريات حول الاعراض، وله في سبيل ذلك، أن يستعمل جميع الوسائل التي يضعها العلم تحت تصرفه؛ حتى يتعرف على حقيقة الداء.. وقد يمتد الخطا في التشخيص الى عدم إستشارة الطبيب لزملائه اللذين هم أكثر تخصصًا منه، خصوصًا إذا أصرّ على رأيه رغم تبينه من خلال آراء زملائه لطبيعة خطئه في التشخيص.
- الصورة الرابعة: الخطا الطبي في تحرير الوصفة الطبية:
أستقر الفقه و القضاء على حرية الطبيب في إختيار ما يراه مناسبا لوصف العلاج، فله كامل الحرية في إتباع طريقة معينة في العلاج، والطبيب ملزم بعدم أقتراح علاج، أو طريقة وهمية غير مؤكدة، حيث أوجبت بعض المدونات الطبية على الطبيب، تحرير الوصفة الطبية بكل وضوح، والحرص على تمكين المريض أو من يقوم على رعايته من فهمها بشكل جلي، وأن يجتهد الطبيب للحصول على أفضل تنفيذ للعلاج.
- الصورة الخامسة: الخطا في الرقابة:
ونعني بذلك، أن لا يقف التزام الطبيب عند مجرد إجراء العملية الجراحية، بل يمتد الى العناية بالمريض عقب ذلك؛ حتى يتفادى مضاعفات العملية. وفي هذا الخصوص، نصت بعض المدونات السلوكية الطبية، على وجوب قيام الطبيب المراقب، بإعلام المريض الخاضع لرقابته، وآن فحصه يكون بصفته طبيبًا مراقبًا، وأنه يمتنع عليه تقديم علاج غير الذي قدمه الطبيب المعالج الأساسي.
- الصورة السادسه: خطأ الطبيب عن عمل معاونيه:
قد تستدعي الضرورة في بعض الأحيان، أن يستعين الطبيب المعالج بمساعدين طبيين يباشرون تنفيذ تعليمات العلاج تحت رقابته وإشرافه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الاستعانة بمختص في الاشعة، أو ممرض لتطهير الجرح، أو إعطاء حقنة لمريض ......الخ. فإذا وقع ضرر للمريض نتيجة خطأ من أحد مساعديه، فهل يساءل الطبيب عن هذا الخطأ؛ باعتباره الطبيب المعالج الذي لجآ اليه المريض؟ ام أن مرتكب الخطأ نفسه عليه أن يتحمل مسؤولية خطئه؟ "في رأينا المتواضع"، آن المساعدين الذين يختارهم الطبيب يعملون تحت مراقبته ومسؤوليته، يتحمل وزرهم وخطئهم وعلى هذا الأساس، يمكن مساءلة الطبيب المعالج شخصيًا عن كل خطأ يثبت في حق أحد من مساعديه، قد يصيب المريض بضرر أثناء علاجه؛ انطلاقًا من مسؤولية المتبوع عن فعل التابع، مادام قد تم إختيارهم بإرادته، والأمر سيان سواءً كان الضرر نتيجة تنفيذ المساعد لتعليمات خاطئة من الطبيب المعالج، أو أن هذا الأخير قدم تعليمات صحيحة من الناحية الطبية، لكن أسلوب وطريقة تنفيذها من قبل المساعد كانت سببًا في وقوعها.
- الصورة السابعة: الخطأ في المعدات و الأجهزة الطبية:
يلزم القانون الطبيب أن يوفر في المكان الذي يمارس فيه مهنته، تجهيزات ملائمة و وسائل تقنية كافية؛ لإداء مهمته في ظروف ليس من شأنها أن تضر بنوعية العلاج، أو الاعمال الطبية المقدمة للمريض، كما يقام على عاتقه التزامًا بسلامة المريض المعالج لديه من آي ضرر قد يلحق به؛ بسبب هذه الأجهزة والمعدات والأدوات الطبية.
فقد يكون الضرر نتيجة لعدم أنتباه الطبيب لقصور أو عيب في الآلة الطبية، فاننا نكون أمام مسؤولية عقدية؛ لأننا أمام حالة كان لتدخل الآلة أو الاداه سببا في عدم تنفيذ الالتزام بتحقيق نتيجة ثابته بالعقد المبرم بين الطبيب المعالج والمريض، وهو التزام بسلامة المريض، اما في الحالة التي يكون فيها الطبيب مستخدم الآلة غير مرتبط مع المريض بعقد طبي، فإن مسؤولية الطبيب عن الآلات والمعدات الطبية تجاه المريض تكون مسؤولية تقصيرية، كمسؤولية حارس الشيء، وبالتالي، تكون مسؤولية الطبيب مفترضه بقوة القانون عن الآلات والمعدات الطبية التي يستخدمها في عيادته، متى تسببت في إحداث ضرر للمريض، و هي قرينة بسيطة يمكن أن يقوم الطبيب بنفيها، إذا أثبت أن الضرر حدث بسبب لم يكن يتوقعه، كفعل المريض نفسه، أو عمل الغير، أو تدخل السبب الاجنبي كالحالة الطارئة، أو القوة القاهرة.
ونقسم هذا المطلب الى فرعين: نتناول في الاول الواقع الطبي المعاش في اليمن، ونتطرق في الفرع الثاني لدور المجلس الطبي المختص في الاخطاء الطبية.
الفرع الأول
الواقع الطبي المعاش في اليمن
إن الحديث عن الأخطاء الطبية في اليمن ليس أمراً جديداً خلال السنوات الأخيرة، لا سيما منذ عام 2015، أي منذ تفاقم الحرب في البلاد، والشكاوى متزايدة من أضرار لحقت بمرضى أدّت في بعض الحالات إلى الوفاة، ومعها يدور كلام كثير عن ميل الجهات الرسمية إلى صفّ بعض الأطباء المتسببين بالأضرار نتيجة أخطائهم المهنية.
- ولا مناص من القول، أن ما يحدث في اليمن في بعض الكوارث الطبية، يكشف العبث بأرواح المرضى باسم الطب، وما تشهده منصات السوشيال ميديا من قصص مأساوية، راح ضحيتها أطفال صغار من الجنسين، نتيجة هفوات جراحية بالجملة، وعمليات تخدير بدائية وفاشلة، إلى جانب سوء التشخيص الأعمى، الذي يقود بعض الحالات إلى غرف العناية الفائقة، والبعض الأخر إلى ثلاجة الموتى.. كل ذلك تتكبدها أرواح بريئة تضاف إلى أرصدة الخسائر التي تحصدها الحروب كل يوم.
- ومن هذا المنطلق، تبداء رحلة العلاج في اليمن أحيانًا، بتشخيص خاطئ لحالة المريض، وهذا أمر طبيعي يدركه الكثيرون، لا تستثنى منه المستشفيات الحكومية من الخاصة، كلهم على نفس الأداء الطبي الضعيف في مختلف المدن اليمنية، مما يدفع البعض إلى تكبد معاناة الانتقال من طبيب إلى آخر، وأحياناً يكون تناول وصفات علاجية خاطئة قد تزيد الحالة سوءاً، ويترتب عنها مضاعفات وخيمة.
وفي بعض الحالات الاخرى، قد يوصي الطبيب المريض بالخضوع لعملية جراحية فورية، لا يكون في الأساس بحاجة إلى إجرائها، فيتفاجأ بعدها بضرورة تصحيحها بعملية أخرى نتيجة أخطاء سابقة، ويزداد الأمر سوءاً عندما ينسى طبيب أو خبير تخدير، مشرطاً أو شاشاً أو أدوات حادة ملوثة داخل أحشاء المريض، ليطلب من أهله الموافقة على إجراء عملية طارئة؛ لاستخراج تلك الأدوات قبل أن تتسبب في هلاكه.
وقد يتفاجأ المريض أو أهله أحيانًا بضرورة توقيع ثلاث أوراق:
الأولى/ يتبرأ فيها الطبيب في حالة حدوث أي خطأ طبي، بما فيها نسيان مقصات العملية داخل جسم المريض، أو أستئصال البنكرياس بدلاً عن المرارة.
والورقة الثانية/ تخص طبيب التخدير الذي يخلي مسؤوليته عن أي مضاعفات للتخدير، بما فيها الغيبوبة أو الوفاة.
أما الورقة الثالثة/ فخاصة بالمستشفى، وتنص أحيانًا على أن المستشفى لا يتحمل أي تبعات؛ في حالة حدوث خطأ طبي في العملية.
- ومن الزاوية المقابلة، قد نلتمس شكوى بعض الأطباء ومن في حكمهم، من سوء وضعهم في العمل الطبي، وتبعًا لذلك، يجب علينا أن نفكر وننظر للأمر بطريقة بسيطة، من خلال تعايشنا مع العوامل والظروف المحيطة بالعمل الصحي في اليمن، وما آلت إليه من نتيجة للعشوائية وعدم الالتزام، والتعدي على خصوصية هذه المهنة من قبل الكثيرين؛ تحت غطاء الإستثمار في القطاع الصحي، وكذلك لضعف و قصور لدى الجهات المعنية، في الإشراف والرقابة على ممارسة المهنة، وما وصل إليه الأمر لتصبح العملية سهلة التحقيق لكل من هب و دب، إضافة إلى ذلك يجب علينا مراعاة ما يعانيه بعض الاطباء اليمنيين من إشكاليات عديدة، تبداء في استحقاقه الوظيفي، وما يتلقاه من راتب لا يتوافق والظروف المعيشية، و وضعه في المجتمع مع تراكم الإلتزامات الكثيرة عليه، لكي يظهر بالمظهر اللائق به، وليقوم بما عليه من تأدية رسالته الإنسانية، وعدم تشديد الخناق عليه بشتى الطرق والوسائل، في حين يتم فتح المجال أمام الغير من العمالة القادمة من خارج البلد، وتسهيل كل الظروف أمامها، دون أي اعتبار لاي مطالب أو تسهيلات لابناء البلد العاملين في الوظيفة الصحية.
الفرع الثاني دور المجلس الطبي
١- الدور الايجابي:
يقوم المجلس الطبي الأعلى في اليمن بدوره إيجابي في الحد من الأخطاء الطبية، من خلال الدور الرقابي المتمثل في التفتيش المستمر على كافة المؤسسات الطبية، وإغلاق أي مؤسسة طبية لم تحقق اشتراطات الترخيص، كما يمارس المجلس دوره الرقابي كذلك، من خلال لجنة التحقيق التي يشكلها بغرض استجلاء الحقيقة، في حال وجود أي مخالفات مرتكبة من قبل عضو الكادر الطبي، ومعاقبته على ذلك في حال ثبوتها، سواءً كان ذلك بناء على شكوى مقدمة من أحد أقارب المرضى، أو من أي شخص آخر، أو كانت محالة إلى المجلس من النيابة العامة، التي ارتأت أن الفعل المنسوب إلى عضو الكادر الطبي لا يشكل جريمة، وإنما يعد خطأ تأديبياً. فضلاً عن ذلك، فإن ثبوت المخالفة المنسوبة إلى عضو الكادر الطبي، يمنح اللجنة المشكلة للتحقيق صلاحية توقيع أي جزاء من الجزاءات الادارية المنصوص عليها في القانون، بشرط أن تتناسب العقوبة مع الخطأ المرتكب، وأن تراعى اللجنة الظروف التي ارتكب فيها هذا الخطأ. وقرار اللجنة بإيقاع الجزاء هو قرار إداري، يجوز الطعن عليه بالإلغاء متى صدر مخالفا للقانون، أو كان مشوباً بعيب السبب، أو عيب الاختصاص.
٢- الدور السلبي:
ويتمثل من خلال الاطلاع على قانون إنشاء المجلس الطبي، فيتضح منذُ الوهلة الاولى، أن هناك مشكلة قانونية تكتنف تنظيم هذا المجلس في اليمن، والذي يختص قانونا بالنظر في شكاوى المواطنين بخصوص الأخطاء الطبية، إذ إن (14) من أعضائه أطباء، بأستثناء واحد ليس طبيباً يمثّل المجتمع، فضلاً عن مستشار قانوني، يختارهما رئيس الوزراء، ويكمل بهما عدد الأعضاء الـ16.
حيث أنه وبالعودة الى صريح المادة (4) من قانون إنشاء المجلس الطبي، رقم (28) لسنة 2000، الذي نصت على ما يلي: "يُشكَّل المجلس من خمسة من مزاولي المهنة يرشحهم الوزير من ذوي التخصصات المختلفة، وثلاثة أطباء يرشحهم المكتب التنفيذي للنقابة من غير أعضائه، من ذوي التخصصات المختلفة، وإثنين من الصيادلة يرشحهما المكتب التنفيذي للنقابة من غير أعضائه ومن تخصصَين مختلفين، و واحد من أطباء الأسنان يرشحه المكتب التنفيذي للنقابة من غير أعضائه، ونقيب الأطباء والصيادلة، وعميدين من عمداء كلية الطب والعلوم الصحية الحكومية، يتم ترشيحهما بالتناوب حسب أقدمية الكلية، وشخصية عامة يختارها رئيس مجلس الوزراء، ويضاف إليهم وفقاً للمادة (7) من القانون، تعيين مستشار قانوني في المجلس، يكون مرشح من قبل وزير العدل".
- ومما لاشك فيه، يتبين لنا بجلاء عدم حيادية المجلس الطبي في اليمن؛ باعتبار أن الأغلبية فيه من زملاء المهنة، باستثناء شخص واحد، وهو المستشار القانوني، في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون هنالك توازن في عضوية المجلس، وأن يكون على الأقل مناصفةً بين الأطباء، وممثلين من عامة المجتمع من غير الاطباء. وبناءً على ذلك، نرى "ومن جهة نظرنا المتواضعة"، أن قانون المجلس الطبي الأعلى بحاجة إلى تعديل، لإحداث التوازن المطلوب فيه.
كما أن هناك عيب في النص القانوني المنظم لعمل المجلس، حيث لم يجز القانون فتح التحقيق في جرائم الأخطاء الطبية، وتحريك الدعوى الجزائية المبنية على تلك التحقيقات، إلا بعد صدور قرار من المجلس الطبي الأعلى. كما أن عدم صدور اللائحة التنفيذية لقانون المجلس الطبي الأعلى لغاية الآن، قد تكون إحدى المعوقات القانونية في ما يتعلق بتنظيم المسائل التفصيلية للأخطاء الطبية، اذ ما علمنا أن اللوائح التنفيذية تصدرها الإدارة لغرض وضع القانون موضع التنفيذ، وهي تخضع تماماً للقانون، وتنظم إجراءات تنفيذة على الواقع، وبالتالي، لا تملك أن تعدّل فيه، أو تضيف إليه، أو تعطل تنفيذه!
المسؤولية الإدارية الطبية وفقا لقانون إنشاء المجلس الطبي اليمني رقم (28) لعام 2000م،
نصت المادة (٢٠) على صلاحية المجلس بتشكيل لجان للنظر في الشكاوى (ومن ضمنها شكاوى الأخطاء الطبية) المقدمة ضد مزاولي المهن الصحية. وبموجب نفس القانون جاء في المادة (10) الفقرة (ف) أن من صلاحية المجلس هو: "التحقيق في الشكاوى والمخالفات المرفوعة إليه والبت فيها، وتوقيع العقوبات الواردة في المادة (24)، أو إحالتها إلى النيابة العامة؛ إذا رأت لجنة التحقيق، أن موضوع الشكوى يتعلق بجريمة من الجرائم التي تختص النيابة العامة برفع الدعوى فيها".
- وفي هذا المقام يثأر التساؤل الاتي: هل يعتبر ماجاء في نص المادة (١٠)، قيدا من قيود تحريك الدعوى الجنائية كما ذكرنا سابقًا؟؟!! فاذا كانت الإجابة نعم، معنى هذا، آن المجلس الطبي، اذا قرر أن الشكوى لاتتعلق بجريمة، هل يسقط حق الشاكي في رفع ضرره للقضاء الجنائي؟؟!! فاذا كانت الإجابة آن الشاكي يحق له في كل الأحوال، اللجوء الى النيابة.. فهل يلزم القانون القضاء الجنائي العودة الى المجلس الطبي، لتعيين لجنة طبية مختصة؛ لتقدير مدى تجريم الخطا الطبي من عدمة؟! وبالتأكيد اذا كانت الاجابة بنعم، فأن هذا الامر سيعيدنا الى نفس المشكلة، وكأننا عُدنا للمثل الشعبي المعروف: (ديمة وخلفنا بابها!!).
وللإجابة على هذا التساؤل، وبالعودة الى المقرر فقهاءً وقضاءً، فإن المحكمة هي (خبير الخبراء أو الخبير الأكبر)، وانطلاقًا من نصوص المواد (١٧٣ ،١٧٤ ،١٧٥)، من قانون الإثبات اليمني، والتي نصت صراحة بالاتي: "للمحكمة أن تاخذ بتقرير الخبراء الذي تطمئن آلية، وتعتبر النتيجة الذي توصل اليها الخبراء وتطمئن اليها المحكمة، دليل كاملًا في المسائل التي يعينون فيها". ويستفاد من هذا النص، أن للمحكمة الأخذ بتقرير لجنة الخبراء المعينة من المجلس الطبي، أو تركة وعدم التعويل علية مع بيان الأسباب، ولها كذلك أن تعيّن لجنة خبراء مستقلة عن المجلس الطبي، ولو كان أعضائها (أطباء أجانب)؛ درءً لشبهة تبعية الأطباء اليمنيين للمجلس الطبي اليمني.
- وغني عن البيان، آن المادة (١٩) من قانون مزاولة المهن الصحية، أوجبت التقيد بآداب وسلوك المهنة، كما تطرقت المادة (١٠) لاختصاصات المجلس الطبي، وحددت الفقرة (ك) وضع قواعد وآداب لسلوكيات المهن الصحية. كما نص الفصل الثالث من "قانون مزاولة المهن الصحية"، على شروط الترخيص في المادة (4)، بينما ذكرت المواد (من 5 الى 11) شروط مزاولة المهن الصحية.
- وبحسب علمنا "المتواضع"، أنه لا يوجد حتى اللحظة قواعد أو مدونة للسلوك الطبي، كما هو الحال في العديد من الدول العربية، كمصر والأردن والسودان والتي أصدرت المدونات السلوكية الطبية كتشريع فرعي ينطم اعمال المهن الصحية بشكل مفصل وأكثر دقة، الأمر الذي يستدعي أن يجتهد القائمين على النظام الصحي في اليمن؛ لسرعة إنجاز مدونة السلوك والقواعد الأخلاقية الطبية، المبينة للعلاقة بين المريض والطبيب ومن في حكمه، على أن تستعرض حقوق والتزامات كل طرف على حده. وأن تنص المدونة على تحديد شروط التدخلات الطبية الخاصة، كإجراء عمليات الإخصاب، وعمليات تحويل الجنس، أو اجراء التجارب والبحوث الطبية على الادميين، كما يجب أن تبين المدونة الحقوق الطبية، وكذا بيان المحظورات على مزاولي مهن الطب والصحة.
بالإضافة للتطرق الى شروط إثبات الخطأ الطبي، وتحديد الحالات التي لا تقوم فيها مسؤولية مزاولي المهن الطبية والصحية.
- ومما تجدر الإشارة بالقول، آن المادة (٢٤) من نفس القانون، نصّت على العقوبات الادارية، التي يتم توقيعها على مزاولي المهن الصحية، من قبل المجلس الطبي، في حالة الإخلال بواجبات المهنة، وهي بحسب الترتيب: "لفت النظر. - الإنذار. - الغرامة خمسين الف ريال. - السحب المؤقت لترخيص المهنة ولمدة لا تزيد عن ستة اشهر. - سحب ترخيص مزاولة المهنة والشطب من سجلات المجلس".
المسؤولية المدنية الطبية وتتجلى هذه المسؤولية في ثلاث فروع: نتناول في الاول خطأ الطبيب ومافي حكمه، ونتطرق في الفرع الثاني لمسؤولية المنشأة الطبيه، ونخصص الثالث للمسؤولية المشتركة بين الطبيب والمنشأة الطبية.
الفرع الأول
مسؤولية الطبيب وما في حكمة وفقًا للقواعد العامة التي استعرضت أحكام المسؤولية التقصيرية في القانون المدني نصت المــادة (304) منه بالاتي: "كل فعل أو ترك غير مشروع، سواءً كان ناشئا عن عمد أو شبه عمد أو خطا، إذا سبب للغير ضررا، فيلزم من ارتكبه بتعويض الغير عن الضرر الذي اصابه، ولا يخلّ ذلك بالعقوبات المقررة للجرائم طبقًا للقوانين النافذة". ويستفاد من هذا النص، أن القانون المدني تناول بصفة عامة، الأثر المترتب على الاضرار بالأخرين، ويدخل ضمن هذة الاضرار الاخطاء الطبية التي يترتب عنها الاضرار بالمرضى.
الفرع الثاني
مسؤولية المنشأة الطبية ونجد السند القانوني لهذة المسؤولية في نص المــادة (312) من القانون المدني والتي ذكرت الاتي :"كل قائم بعمل مسئول عن إختيار العامل الذي أوكل اليه القيام بهذا العمل، ومسئول عن الاشراف عليه ورقابته وتوجيهه في تنفيذ هذا العمل، ويعتبر العامل تابعًا له في ذلك، وتقوم رابطة التبعية بين القائم بالعمل والعامل ولو لم يكن المتبوع حرّا في اختيار تابعه، متى كانت له عليه سلطة فعلية في مراقبته وتوجيهه".
ويتضح من خلال هذا النص، أن المسؤولية القانونية في علاقة التابع بالمتبوع، "كعلاقة الطبيب بالمستشفى"، يكون المستشفى من خلال تبعية الطبيب له، مسؤولا في مواجهة المريض عن الضرر الذي قد يحدثه الطبيب بعمله غير المشروع، ويشترط لقيام هذة المسؤولية، أن يكون الخطأ واقعًا من الطبيب خلال أدائه لوظيفته أو بسببها، كما تتحقق هذة المسؤولية ولو لم يكن المستشفى حرّا في إختيار تابعه، شرط أن تكون هناك سلطة فعلية من المستشفى في رقابة وتوجيه الطبيب لاداء المهمة المكلف بها.
- لكن بالمقابل، ليس كل فعل أو عمل يجرية الطبيب، تكون المنشأة الطبية مسؤولة عن هذا الفعل، وإنما تنحصر مسؤوليتها في الأعمال التي تكون من واجبات ومهام واختصاصات الطبيب، فإن أحدث الطبيب فعلًا غير مشروع دون يكون داخلا في اختصاصه ومهامه، فيتحمل الأخير المسؤولية، ويقع على عاتق المنشأة ضمان أحضار الطبيب للمساءلة القانونية.
وهذا الأمر أشارت اليه حكم المــادة (313) مدني صراحة بقولها: "يكون المتبوع مسئولا عن الضرر الذي يحدثه تابعه، بعمله غير المشروع الذي أمره به، فأن عمل التابع عملًا غير مشروع أضرّ بالغير ولم يأمره المتبوع، كانت المسئولية على التابع، وعلى المتبوع أن يحضر العامل لتعويض الضرر الذي أحدثه".
الفرع الثالث
المسؤولية المشتركة ويتجسد حكم هذه المسؤولية في نص المــادة (310) من القانون المدني السالف الذكر وفقًا للأتي: "إذا تعدد المسئولون عن عمل ضار، تكون المسؤولية فيما بينهم بالتساوي، إلا اذا عيّن القاضي نصيب كل منهم في التعويض، بحسب تأثير عمل كل واحد منهم، وإذا كانوا متواطئين على الفعل، كانوا متضامنين في المسئولية". وتماشيًا مع ما تم ذكره، فإن المتضرر "المريض" من حقه الرجوع إلى المنشأة الطبية أو إلى الطبيب وما في حكمه، أو أن يجمع الإثنين معا، حيث آن المسؤولية هي "مسؤولية تضامنية"، ونود التنويه في هذا الشأن، بعدم الجواز للمتضرر الجمع بين تعويضين.
- واستخلاصًا لما سبق، فإن مسؤولية المنشأة الطبية عن الطبيب والصيدلي والممرض ونحو ذلك.. من أعمالهم غير المشروعة قائمة، وأن المتبوع يعتبر مسؤولًا بالتضامن مع التابع عن الخطأ الذي أرتكبه الأخير؛ لأن كليهما أخطأ، فالمنشئه قصّرت في إختيار الطبيب، والاخير قصرّ في عمله.
وفي مقابل ما تقدم، أجاز القانون المدني للمسؤول عن الخطأ الطبي إثبات العكس، وآن يتخلص من مسؤوليتة المدنية في حال تحقق حالتين:
- الحالة الأولى:
ما نصت علية المــادة (306) من القانون المدني، والتي أشارت بالاتي: "اذا اثبت الشخص، أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه، كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة، أو خطا من المضرور نفسه "المريض"، أو خطأً من الغير، فإنه يكون غير ملزم بتعويض هذا الضرر، ما لم يوجد نص أو اتفاق يقضي بغير ذلك".
- والحالة الثانية:
ما نصت علية المــادة (309) من نفس القانون، والتي أكدت على الحكم الاتي: "من سبب ضررا للغير ليتفادى به ضررا أكبر محدقا به أو بغيره، لا يكون ملزمًا إلا بالتعويض الذي يراه القاضي مناسبًا شرعًا".
ونتناول هذا المطلب في ثلاثة فروع، نتطرق في الأول لمدلول المسوؤلية الجنائية الطبية، ونعالج في الثاني أركان المسوؤلية الجنائية الطبية، ونخصص الثالث لعقوبات الخطأ الطبي.
الفرع الاول
مدلول المسؤولية الجنائية الطبية
مما لاشك فيه، أن موضوع المسئولية الجنائية للأطباء ومن في حكمهم، يُعدّ من أكثر الموضوعات التي أثارت الجدل والنقاش والاجتهاد، في مجال الفقه الجنائي والتطبيق القضائي، إضافة إلى إثارة الخلاف بين رجال القانون والأطباء.. وتبعًا لذلك، يمكن تحديد مسئولية الأطباء الجنائية، بالالتزام القانوني القاضي بتحمل الطبيب الجزاء أو العقاب؛ نتيجة إتيانه فعلًا أو الامتناع عن فعل، يشكل خروجا أو مخالفة للقواعد أو الأحكام التي قررتها التشريعات الجنائية أو الطبية.
وعلى هذا الاساس، يكون الخطأ الطبي الجنائي وفق ما ذكرته نص المــادة (10) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني بالاتي: "يكون الخطا غير العمدي متوافرا، إذا تصرف الجاني عند ارتكاب الفعل على نحو لا يأتيه الشخص العادي، اذا وجد في ظروف بأن اتصف فعله بالرعونة أو التفريط أو الاهمال، أو عدم مراعاة القوانين واللوائح والقرارات، ويعد الجاني متصرفًا على هذا النحو، إذا لم يتوقع عند ارتكاب الفعل النتيجة التي كان في استطاعة الشخص العادي أن يتوقعها، أو توقعها وحسب أن في الامكان إجتنابها".
ومن خلال هذا النص، يتبين أنه إذا أقترن العمل الطبي بخطأ، سُئل الطبيب عنه مسئولية غير عمدية، ويتحقق الخطأ الطبي بخروج الطبيب ومن في حكمة، عن القواعد الطبية المقررة، أو إذا أهمل إهمالًا لا يصح أن يصدر من مثله، ويخضع تقدير الخطأ الطبي للقواعد العامة التي يخضع لها تقدير الخطأ غير العمدى، وهذا يعود للسلطة التقديرية للمحكمة، فعلى سبيل المثال، يُسأل الطبيب إذا أجرى عملية علاج بأدوات غير معقّمة، أو أجراها وهو في حالة سُكرً، أو ترك سهوًا في جسم المريض (أداة جراحية)، وعليه تتحقق المسئولية الجنائية.
الفرع الثاني
أركان المسئولية الجنائية المسئولية الجنائية للطبيب ومن في حكمة، تتحقق حال توافر أركان الجريمة الثلاث وهي :
١ - ركن الخطأ:
فمسئولية الطبيب تتحقق بوجود خطأ يرتكب منه، مهما كان نوعه سواءً أكان خطأ فنياً، أو مادياً جسيماً، أو يسيراً، وبطبيعة الحال، من الصعب حصر صور الخطأ الطبي الشائعة في العمل، والتي تثور حولها الكثير من المشاكل، فحصرها أمر مستحيل يتناقض مع ظروف الواقع المتغيرة والمتطورة. ولهذا يصح الحكم على الطبيب الذي يرتكب خطأ يسيراً، ولكن يجب التأكد من وجود الخطأ، بأن يكون ثابتاً ثبوتاً كافيا.
٢ - ركن الضرر:
وهي النتيجة المتحصلة من جراء فعل الخطأ من الطبيب ومن في حكمة، كالتسبب في موت مريض، أو إلحاق أذى بجسمه أو صحته، كالعاهة الدائمة أو الجرح، فلابد من وقوع الضرر سواءً كان قاتل أو غير قاتل، فان لم يقع الضرر فلا محلّ للعقاب، مهما كان خطأ الطبيب، ومهما يكن الخطر الذي يمكن أن يترتب عليه، فلا عقاب على الشروع. ولابد من التأكيد أن الضرر المقصود هنا، ليس هو الضرر الناجم عن عدم شفاء المريض، أو عدم نجاح الطبيب أو الجراح في العلاج؛ لإن مجرد عدم شفاء المريض شفاءً تاما أو جزئيا لا يُكوّن ركن الضرر؛ باعتبار الطبيب لا يلتزم بتحقيق نتيجة وهي شفاء المريض، وإنما يلتزم ببذل العناية والجهد في سبيل الشفاء، ومن الطبيعي أن الالتزام ببذل عناية قد يؤدي أو لا يؤدي إلى تحقيق غاية أو نتيجة معينة.
٣ - الرابطة السببية المباشرة بين الخطأ الضرر:
ومن المقرر فقهاء وقضاءً، أن مجرد وقوع الضرر للمريض وثبوت خطأ الطبيب، لا يكفي لقيام المسئولية، بل يلزم لتوافرها قيام علاقة السببية بين هذا الخطأ وذلك الضرر، فإذا انتفت العلاقة السببية انتفت المسؤوليه.
ومسألة تحديد الرابطة السببية في المجال الطبي، يعدّ من الأمور الشاقة والعسيرة؛ نظرا لتعقيد الجسم الإنساني، وتغير حالاته وخصائصه، وعدم وضوح أسباب المضاعفات، فقد تعود أسباب الضرر إلى عوامل بعيدة أو خفية، كطبيعة جسم المريض نفسه، واستعداده للإصابة بالأمراض، وللشفاء بنفس الوقت؛ مما يصعب معه تبينها.
الفرع الثالث
عقوبات الأخطاء الطبية
١ - القتل بخطأ طبي:
ونصت عليه المــادة (238) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني: "يعاقب بالدية من تسبب بخطئه في موت شخص، ويجوز فوق ذلك، تعزير الجاني بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة، فاذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته، أو مخالفته للقوانين واللوائح، أو كان تحت تأثير سُكرً أو تخدير عن وقوع الحادث، كان التعزير الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات".
٢ - الجرح بخطأ طبي:
في حالة تعرض المريض للأذى الحسّي بسبب الخطأ الطبي، ففي هذه الحالة نستعين بنص المــادة (245) عقوبات، والتي نصت بالآتي: "يعاقب بالدية أو بالأرش على حسب الأحوال، من تسبب بخطئه في المساس بسلامة جسم غيره، وبالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة؛ إذا نشا عن الجريمة عاهة مستديمة، أو اذا وقعت نتيجة إخلال الجاني بما توجبه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته، أو مخالفته للقوانين واللوائح، أو كان تحت تأثير سُكرً أو تخدير عند وقوع الحادث، كانت عقوبته الحبس مدة لا تزيد على سنتين او الغرامة".
٣ - في حالة الإجهاض:
ونص على هذه الجريمة قانون العقوبات السالف الذكر وفق الاتي:-
الأول: القصد العمدي:
وذكرته المــادة (239) عقوبات بالآتي: "كل من أجهض عمدًا إمراة دون رضاها، يعاقب بدية الجنين "غرة"، وهي نصف عشر الدية، إذا اسقط جنينها متخلقا أو مات في بطنها، أما إذا انفصل الجنين حيًا نتيجة الاسقاط ومات، عوقب الجاني دية كاملة، وفي آي من الحالتين المذكورتين، يعزّر الجاني، بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات، فإذا أفضت مباشرة الإجهاض الى موت المجني عليها، أو كان من باشر الاجهاض (طبيبًا أو قابلة)، كانت عقوبة التعزير بالحبس الذي لا يزيد على عشر سنوات".
- اما الثاني: فهو القصد غير العمدي( الخطأ):
وتطرقت له المــادة (240) عقوبات وفق ما يلي: "إذا تم الإجهاض برضاء المرأة، يعاقب الفاعل بدية الجنين "غرة"، أو الدية كاملة حسب الأحوال، ولا تستحق المرأة في هذه الحالة شيئا من الغرّة أو الدية، وإذا ماتت الام، عوقب الفاعل بدفع دية الخطأ، وفي حالة إجهاض المرأة نفسها، فعليها الدية أو الغرّة حسب الأحوال، ولا عقوبة إذا قرر طبيب مختص أن الإجهاض ضروري للمحافظة على حياة الام".
٤ - مقدار الدية والاروش في القانون اليمني:
حدد المشرّع اليمني في المادة (٤٠) من قانون العقوبات وتعديلاتها، مقدار خُمس الدية في القتل (بخطأ طبي) بمبلغ مليون وثمانمائة الف ريال يمني، كما أجاز تعديلها بقرار جمهوري قانوني، لتتماشى مع ظروف المجتمع وتطوراته اللاحقة، يتقاسمها الورثة وفقا للأنصبة الشرعية. كما حددت المادة (٤١) من نفس القانون، الأعضاء (المنفردة) في جسم الإنسان المستحقة لدية كاملة، وبيّنت نفس المادة الأعضاء (الزوجية) المستحقة لدية كاملة.
فيما نصت المادة (٤٢) من القانون نفسه، على تحديد وصف الجروح والإصابات التي تقع على جسم الإنسان، واستعرضت مقدار الارش بالتحديد والتفصيل أمام كل جرح أو إصابة. وفي كل الأحوال، يكون مقدار المبالغ المحكوم بها لاتتجاوز خمس اي دية أو ارش محكوم بها.
- كما تطرق قانون مزاولة المهن الصحية المذكور سلفا، لعقوبات بعض المخالفات من المواد (33 وحتى المادة 36)، مع مراعاة ما ورد في قانون إنشاء المجلس الطبي، كما صرحت المادة (36) من قانون مزاولة المهن، بمساءلة ومعاقبة المخالف؛ إذا ترتب على مخالفته حدوث فعل أو أفعال تعد جريمة معاقباً عليها وفقاً لقانون الجرائم والعقوبات، وكذا عدم الإخلال بأي عقوبة أشد تنص عليها القوانين النافذة. كما ذكر القانون رقم (4) لسنة 2009 بشأن الصحة العامة، على العديد من الواجبات في مجال الترصد الوبائي ومكافحة الأمراض، وبالذات المواد (10 ، 11 ، 15 ، 16 ، 17 ، 18 ).
ونص على العديد من المخالفات لنصوصه في الظروف الطارئة، كعدم الابلاغ عن الإصابات والوفيات الناتجة عن الأمراض المعدية، أو تعريض شخص للعدوى، أو التسبب عن قصد بنقل العدوى للغير، أو إخفاء مصاب عن قصد بمرض معدي، أو الامتناع عن تنفيذ أي إجراء طلب منه لمنع تفشي العدوى، ونحو ذلك…
١- النتائج:
من خلال إستقراءنا للواقع اليمني، في موضوع مسئولية الطبيب نذكر أهم النتائج والأسباب؛ لكثرة الأخطاء الطبية، وهي في "تقديرنا المتواضع"، كالتالي:
أ- مدلول الخطأ الطبي يرجع إلى الجهل بأمور فنية، يفترض في كل من يمارس المهنة الإلمام بها، أو كان هذا الخطأ راجعا إلى الإهمال، أو عدم بذل العناية اللازمة.
ب- الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب ومن في حكمة، هو من حيث المبدأ إلتزام ببذل عناية، من خلال الجهد الصادق واليقظة، التي تتفق والظروف القائمة، والأصول العلمية الثابتة، بهدف شفاء المريض وتحسين حالته الصحية.
ج- في حالات استثنائية يقع على عاتق الطبيب التزام بتحقيق نتيجة، وتتمثل في سلامة المريض، من خلال عدم تعرضه لأي أذى من جراء الادوات أو الاجهزة أو الادوية، أو العدوى من الامراض.
د - نجد أن المريض في اليمن قليل التمسك والإلمام بحقوقه، ويعود ذلك إلى تدني مستوى الثقافة بصفة عامة، كونه يخلط بين مسألة الإيمان بالقضاء والقدر، وإمكانية وقوع خطأ من الطبيب ومن في حكمة، معتقدين بأن مقاضاة الطبيب هو أعتراض على قضاء الله وقدره.
ها- فيما يتعلق بدور دليل الإثبات، فأن البراءة هي النتيجة الغالبية لمعظم الشكاوى، والقضايا المقدمة لنقابة الأطباء والمهن الصحية الأخرى وجهات الاختصاص، حيث لم يقم أي دليل على إدانة الطبيب المشكو فى حقه؛ لعدم وجود أي خطأ فني أو مهني أو سلوكي أو إهمال أو تقصير، فهل هذه النتيجة تعود لأن الطبيب يحقق معه من قبل مؤسسة هو عضوا فيها أصلًا؟! أو من قبل أعضاء هم في الأصل زملاء له؟ أم يعود ذلك إلى نقص المعرفة وقلة الثقافة الصحية لدى الناس؟ حيث أن الغالبية العظمى من الناس، تعتقد وتتصرف على أساس أن الإجراءات الطبية التي يقوم بها الأطباء، هي التزام بتحقيق نتيجة، والأطباء يتعاملون مع المرضى، ومع الحالات المرضية من منطلق الالتزام بتقديم عناية.
و- دور التشريعات القانونية، يقتضي الاهتمام والاسراع باصدار التشريعات الفرعية المنظمة للعمل الطبي في هذا الخصوص، وأن تعمل تلك التشريعات للحيلولة دون إرهاق الطبيب والمريض بنفس الوقت، لا سيما تلك التشريعات المتخصصه، بتنظيم مسألة الأخطاء الطبية والإهمال، سواء بالنسبة لنوعية الخطأ أو مدى جسامته، أو مسؤولية الأطباء عن أخطائهم.
ز – بخصوص اخلاقيات المهنه، من المهم آن تكون أساسًا للعمل الطبي، والأمر يقتضي إصدار مدونة أو دستور للسلوك الطبي، أو لائحة تبين أخلاقيات وآداب المهن الطبية والصحية.
٢- التوصيات:
أ- فيما يتعلق بدور المجلس الطبي: كان من المستحسن على المشرع، أن يجيز فتح التحقيق بإذن النيابة المختصة مباشرة، على أن يتم إدخال المجلس الطبي وجوبيا؛ لتقديم التقارير الفنية الطبية بشأن القضايا الطبية المعروضة على القضاء، باعتبارها داخله في إطار تقارير الخبراء، وفقا لقانون الاثبات الذي أعتبرها كدليل من ضمن الأدلة في القضية، دون أن يقتصر على اعتباره الدليل الوحيد في القضية.
ب- فيما يتعلق بدور التشريعات: نوصي بإصدار مدونة السلوك الطبي، تبين قواعد المعاملة الطبية بين الطبيب والمريض، ولتقرر فيه مبادئ للحماية والاطمئنان للجانبين، فلأتترك المريض عرضة لاستهتار الطبيب أو إهماله، وبالمقابل، يجب ان تحدد للطبيب ومن في حكمة حدودا وقواعد، إذا تجاوزها اعتبرته مسئولاً، وهو بهذا ضمن حق المريض ومراعاة مصلحته وحفظ سلامته.
ج- فيما يتعلق بدور المريض: ندعو للاهتمام بنشر الوعي والثقافة الطبية عبر وسائل الإعلام المختلفة، حتى يتمكن المواطن من معرفة حقوقه والتزاماته تجاه الطبيب، ومعرفة الطبيب أيضا حقوقه والتزاماته تجاه مريضه.
د- فيما يتعلق بالسلطات الحاكمة: نهيب بها الاهتمام بالمنظومة الطبية في اليمن، والتي تشهد فوضى جعلتها عاجزة عن القيام بدورها في ضبط العمل، ومراقبة الجودة والكفاءة، مما أتاح الفرصة لمالكي المرافق الطبية والعيادات الخاصة، للعبث بأرواح المرضى، وعدم الامتثال للأنظمة والقوانين السارية.
هـ- فيما يتعلق بالتأمين الطبي: نقترح أن يضع المشرع التامين الطبي بشكل الزامي، تكفل فيه الدولة بتعويض المضرور، في حالة انعدام المسؤول، وعلى أساس ضمان الولي من لا ولي له.
و- فيما يتعلق بتعليم الطب: نرى أن يكون اقتصار دراسة وتخريج الأطباء على الجامعات الحكومية، وإلغاء دراسة الطب في الجامعات الخاصة، كما هو الحال في الأردن، التي حصرت دراسة الطب على الجامعات الحكومية، كما ندعو أن تكون دراسة "التخدير تخصصيه" بعد مساق البكالوريوس.
نسأل الله عز وجل، آن يشفي مرضانا جميعا، ويوفق جميع اطبائنا ومن في حكمهم الى ما فية خيرً للبلاد والعباد، والله أعلم وهو الموفق للصواب.