أثر القضاء ببطلان حكم التحكيم على اتفاق التحكيم

أثر القضاء ببطلان حكم التحكيم على اتفاق التحكيم

المحامي الدكتور هشام قائد عبدالسلام الشميري
تجيز تشريعات التحكيم الحديثة بما فيها قانون التحكيم اليمني رفع دعوى بطلان حكم التحكيم إذا توافر أحد الأسباب الواردة في المادة(٥٣) من قانون التحكيم، وتعد دعوى بطلان حكم التحكيم دعوى أصلية وليست طريقاً من طرق الطعن في الأحكام القضائية المنصوص عليها في قانون المرافعات. والتحكيم يعد طريقاً استثنائياً للتقاضي وخروجاً على طرق التقاضي العادية يقوم على إرادتين؛ إرادة الأفراد وإرادة المشرع التي تعتمد إرادة الأفراد وتبين مجال وشروط إعمالها، ولذلك فإن التحكيم يستند أساساً على وجود إتفاق تحكيم صحيح وقائم، وتبعاً لما يكتسبه الاتفاق على التحكيم من أهمية فإن المشرع قد جعل تخلفه أو بطلانه أو سقوطه في طليعة الأسباب التي تجيز طلب إبطال حكم التحكيم.
وإذا تم رفع دعوى بطلان في مواجهة حكم التحكيم قُضي بقبولها وإبطال حكم التحكيم فإنه يثور التساؤل عن أثر القضاء ببطلان حكم التحكيم على اتفاق التحكيم، فهل يظل اتفاق التحكيم بعد القضاء ببطلان حكم التحكيم قائماً مرتباً آثره متمتعاً بقوته الالزامية فى مواجهة طرفيه بحيث يجوز اللجوء إلى التحكيم مرة أخرى إستناداً لذات اتفاق التحكيم؟ أم أن اتفاق التحكيم بعد القضاء ببطلان حكم التحكيم ينقضي أثره بحيث لا يجوز اللجوء إلى التحكيم مرة أخرى إستناداً لذات اتفاق التحكيم؟يجب التفرقة بشان أثر القضاء ببطلان حكم التحكيم على اتفاق التحكيم بين فرضين هما:
الفرض الاول: القضاء ببطلان حكم التحكيم الذي يرجع إلى اتفاق التحكيم من حيث وجوده أو بطلانه أو نفاذه:يتفق الفقه والقضاء على أن القضاء ببطلان حكم التحكيم الذي يرجع إلى اتفاق التحكيم من حيث وجوده أو بطلانه أو نفاذه والذي يتوافر فيه حالة البطلان الواردة في الفقرة (أ) من المادة (٥٣) من قانون التحكيم المتعلقة بعدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلانه أو سقوطه فإن ذلك يؤدي إلى زوال اتفاق التحكيم انقضاء أثره، بحيث لا يجوز اللجوء إلى التحكيم الذى قضى ببطلان الحكم الصادر فيه مرة أخرى استنادا لذات اتفاق التحكيم لفقدان اللجوء إلى التحكيم لأساسه وهو اتفاق التحكيم، فإذا كان بطلان حكم التحكيم راجعاً إلى السبب الوارد بالفقرة(أ) من المادة(٥٣) من قانون التحكيم وهو صدور حكم التحكيم دون وجود اتفاق تحكيم أو بناءً على اتفاق تحكيم باطل أو بعد سقوط اتفاق التحكيم فإنه لا يجوز فى هذه الحالة اللجوء إلى التحكيم الذى قضى ببطلان الحكم الصادر فيه مرة أخرى استنادا لذات اتفاق التحكيم؛ وذلك لفقدان اللجوء إلى التحكيم لأساسه وهو اتفاق التحكيم. فإذا كان الحكم الصادر في دعوى البطلان قد تعرض لمسألة صحة أو بطلان أو سقوط إتفاق التحكيم فقضى ببطلان حكم التحكيم إستناداً إلى عدم وجود الاتفاق أو بطلانه أو سقوطه سواً كان قضاءه بهذا صريحاً أو ضمنياً فإن الحكم ببطلان حكم التحكيم يمنع من الإلتجاء إلي التحكيم ويوجب على ذى المصلحة إن أراد المطالبة بحقه أن يلجأ إلى المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع مالم يبرم الطرفان إتفاقاً تحكيمياً جديداً. ويستثنى من ذلك حالة ما إذا كان هناك شرط تحكيم وأبرمت بعده مشارطة وحُكِمَ ببطلان المشارطة وبالتبعية ببطلان حكم التحكيم الذى صدر استنادًا إليها، فإن هذا الحكم لا يُبْطِل شرط التحكيم السابق عليها، فيبقى لهذا الشرط أثره فى التزام الطرفين باللجوء إلى التحكيم.
الفرض الثاني: القضاء ببطلان حكم التحكيم الذي لا يرجع إلى اتفاق التحكيم من حيث وجوده أو بطلانه أو نفاذه:إذا كان القضاء ببطلان حكم التحكيم لا يرجع إلى اتفاق التحكيم من حيث وجوده او صحته ونفاذه وإنما راجعاً إلى بقية حالات البطلان الواردة في المادة(٥٣) من قانون التحكيم الفقرات (ج،د،و،ه،ز) المتعلقة بعدم صحة الإجراءات وتجاوز لجنة التحكيم صلاحياتها ومخالفة تشكيل لجنة التحكيم وعدم تسبيب حكم التحكيم ومخالفة حكم التحكيم النظام العام فإنه في هذا الفرض يثور التساؤل حول أثر القضاء ببطلان حكم التحكيم على اتفاق التحكيم، فهل يلزم هذا الاتفاق طرفيه باللجوء إلى التحكيم مرة أخرى، أم أن اتفاق التحكيم لا يصلح سنداً للجوء إلى التحكيم الا مرة واحدة ويسترد طرفاه حريتهما فى ولوج طريق القضاء بعد استنفادة تلك المرة؟
خلا قانون التحكيم اليمني رقم(22)لسنة 1992م المعدل بالقانون رقم (32) لسنة 1997م من إيراد أي بيان بشان هذه المسألة، ولذلك احتدم الخلاف الفقهي والقضائي بشأنها إلى ثلاثة اتجاهات وهي:الاتجاه الأول: ذهب جانب من الفقه والقضاء إلى أن القضاء ببطلان حكم التحكيم الذي يرجع إلى بقية حالات البطلان الواردة في المادة(٥٣) من قانون التحكيم الفقرات(ج،د،و،ه،ز) التي لا تتعلق باتفاق التحكيم من حيث وجوده وبطلانه ونفاذه يؤدي إلى زوال اتفاق التحكيم وانقضاء أثره بحيث لا يجوز اللجوء إلى التحكيم الذى قضى ببطلان الحكم الصادر فيه مرة أخرى إستناداً لذات اتفاق التحكيم وإنما يكون للأطراف رفع الدعوى أمام المحكمة المختصة أو الإتفاق على عرض النزاع على هيئة تحكيم جديدة بإتفاق جديد، فلا يجوز طرح ذات النزاع مرةً أخرى أمام ذات المحكم أو محكم آخر إلا بموجب إتفاق تحكيم جديد بين الأطراف، ويُستثنى من ذلك المسائل التي لم يفصل فيها حكم التحكيم الذي ُقضى ببطلانه فإن إتفاق التحكيم لا يسقط بشأنها ويجوز للأطراف طرح هذه المسائل أمام ذات المحكم استناداً لإتفاق التحكيم السابق. وبالتالي فإنه إذا كان القضاء ببطلان حكم التحكيم قد تعرض لمسألة صحة أو بطلان اتفاق التحكيم فقضى ببطلان حكم التحكيم استنادًا إلى بطلان الاتفاق شرطًا أو مشارطة أو إلى سقوطه أو عدم نفاذه سواء كان قضاؤه بهذا صريحاً أو ضمنياً فإن القضاء ببطلان حكم التحكيم يمنع الالتجاء إلى التحكيم ويجب على ذى المصلحة إن أراد المطالبة بحقه أن يلجأ إلى المحكمة ما لم يبرم الطرفان اتفاق تحكيم جديد. وفي ذلك قضت المحكمة العليا اليمنية في حكمها الصادر من الدائرة التجارية بتاريخ 20/ 4/ 2009م في الطعن التجاري رقم(33861) بقولها:(أن الطبيعة الاستثنائية للتحكيم توجب عدم التوسع في اعمال شرط التحكيم وحصر استعماله مرة واحده، بحيث ينتهي أثر شرط التحكيم ويستنفد العمل به بمجرد صدور الحكم من المحكم، فلا يملك أحد الخصوم اجبار الطرف الاخر التحكيم مرة ثانية إن هم أخفقوا في الوصول الى حل النزاع بموجب تحكيم سابق صدر في موضوعه حكم تحكيم رفع بشانه دعوى بطلان قضت فيها محكمة الاستئناف ببطلان حكم التحكيم؛ وذلك لان المره من ضروريات المأمور به وصيغة الشرط لاتقتضي التكرار إلى مالانهايه بتكرار اللجوء إلى محكمين أخرين، وشرط التحكيم يعد عائق مؤقت عن اللجوء الى القضاء صاحب الاختصاص الاصيل في نظر الخصومات، والمنطق السليم لايقبل تأبيد النزاع أمام التحكيم وحرمان الخصم من حقه الدستوري باللجوء الى القضاء صاحب الولاية العامة).
الاتجاه الثاني: ذهب جانب أخر من الفقه والقضاء إلى أن القضاء ببطلان حكم التحكيم الذي يرجع إلى بقية حالات البطلان الواردة في المادة(٥٣) من قانون التحكيم الفقرات(ج،د،ه،و،ز) التي لا تتعلق باتفاق التحكيم من حيث وجوده وبطلانه ونفاذه لا يؤثر في اتفاق التحكيم وأن اتفاق التحكيم بعد القضاء ببطلان حكم التحكيم يظل قائماً مرتباً آثره متمتعاً بقوته الالزامية فى مواجهة طرفيه بحيث يجوز لكل ذي مصلحة بعد القضاء ببطلان حكم التحكيم اللجوء إلى التحكيم مرة أخرى إستناداً لذات اتفاق التحكيم. وفي ذلك قضت محكمة النقض المصرية في حكمها بالطعن رقم(17518)لسنة 76ق بقولها مالفظه:(وإذا لم تعقد هذه المشارطة وكان الحكم الصادر فى دعوى بطلان حكم التحكيم لم يعرض لمسألة وجود أو صحة أو نفاذ أو بطلان اتفاق التحكيم فإن هذا الحكم لا يؤثر فى اتفاق التحكيم ويكون لكل ذى مصلحة بعد صدور حكم البطلان اللجوء إلى التحكيم نفاذًا لهذا الاتفاق).
الاتجاه الثالث: ذهب جانب من الفقه والقضاء إلى أن القول بمدى إلزامية اتفاق التحكيم لطرفيه فى اللجوء للتحكيم مرة أخرى بعد القضاء ببطلان حكم التحكيم الصادر استناداً إليه أو عدم إلزاميته يتوقف على مسألة استهلاك ميعاد التحكيم من عدمه، فإذا كانت إجراءات التحكيم التى انتهت بصدور الحكم المقضى ببطلانه قد استهلكت كل مدة التحكيم -سواءً مدته الاتفاقية أو القانونية في التشريعات التي حددت مدة معينة للتحكيم- بأن صدر حكم التحكيم فى نهاية المدة ولم يعد يتبقى منها زمناً فإنه لا يجوز اللجوء إلى التحكيم مرة ثانية استناداً لذات اتفاق التحكيم المنهى بانتهاء مدته؛ لان اتفاق التحكيم ينتهي بانتهاء مدته كأى عقد من عقود المدة وهو ما يفقد أساس اللجوء إلى التحكيم وهو اتفاق التحكيم الذى انتهى نهاية طبيعية بانتهاء مدته ويصبح من حق الاطراف اللجوء إلى القضاء، ولان القول بغير ذلك سيؤدى إلى نتيجة غير مقبولة قانوناً بأن يصيح اتفاق التحكيم مؤبداً وهذا أمر يخالف النظام العام فلا وجود قانوناً للعقود المؤبدة. أما إذا صدر حكم التحكيم المقضى ببطلانه قبل إنتهاء المدة المحددة لاتفاق التحكيم فإن اتفاق التحكيم لم ينته بإنتهاء مدته، كونه قد تبقى منها زمناً يظل فيه الاتفاق سارياً منتجاً لآثاره، بحيث يجوز معه خلال تلك المدة المتبقية اللجوء إلى التحكيم مرة أخرى استناداً لذات الاتفاق، ولكن يتعين صدور الحكم خلال تلك المدة المتبقية ما لم يتم مد مدة التحكيم. وفي ذلك قضت محكمة جنوب القاهرة الابتدائية فى حكمها الصادر فى 28/ 10/ 2003م فى الدعوى رقم 1178 لسنة 2002 تجارى كلى بقولها مالفظه:(القول باللجوء الى التحكيم مرة اخرى رغم انتهاء مدة اتفاق التحكيم لا يعدو ان يكون إفساح الطريق للعبث بمصالح ومقدرات الخصوم فى ظل تصور تكرار اللجوء الى التحكيم الى ما لا نهاية وهو يعد افتئات على حق الشركة المدعية فى العودة الى قاضيها الطبيعى…).
وبدورنا نؤيد الاتجاه الأول الذي ذهب إلى أن القضاء ببطلان حكم التحكيم الذي يرجع إلى بقية حالات البطلان الواردة في المادة(٥٣) من قانون التحكيم الفقرات(ج،د،ه،و،ز) التي لا تتعلق باتفاق التحكيم من حيث وجوده وبطلانه ونفاذه يؤدي إلى زوال اتفاق التحكيم وانقضاء أثره بحيث لا يجوز اللجوء إلى التحكيم الذى قضى ببطلان الحكم الصادر فيه مرة أخرى استنادا لذات اتفاق التحكيم وإنما يكون للأطراف رفع الدعوى أمام المحكمة المختصة أو الإتفاق على عرض النزاع على هيئة تحكيم جديدة بإتفاق جديد، فلا يملك أحد الخصوم اجبار الطرف الاخر التحكيم مرة ثانية إن هم أخفقوا في الوصول إلى حل النزاع بموجب تحكيم سابق صدر في موضوعه حكم تحكيم رفع بشانه دعوى بطلان قضت فيها محكمة الاستئناف ببطلان حكم التحكيم؛ وسندنا في ذلك الآتي:١- إن اتفاق التحكيم يعد عائق مؤقت عن اللجوء إلى القضاء صاحب الاختصاص الاصيل في نظر الخصومات، وأن المنطق السليم لايقبل تأبيد النزاع أمام التحكيم وحرمان الخصم من حقه الدستوري باللجوء إلى القضاء صاحب الولاية العامة، فالتحكيم نظام استثنائي ذو نشأة اتفاقية يسلب القضاء ولايته في الفصل بالنزاع، ويُعد عنصر التوقيت من أهم عناصر التحكيم حتى لا يمتد اختصاصه إلى ما لانهاية مما يشل اختصاص محاكم الدولة وينتقص من سيادتها بشكل دائم.٢- إن القول باللجوء إلى التحكيم مرة اخرى استناداً إلى ذات اتفاق التحكيم لا يعدو أن يكون إلا إهداراً لرغبة المشرع فى سعيه الحثيث نحو تفادى طول الاجراءات وللوصول إلى الفصل فى المنازعة على الوجه الصحيح فى أسرع وقت فضلاً عن إفساح الطريق للعبث بمصالح ومقدرات الخصوم فى ظل تصور تكرار اللجوء إلى التحكيم إلى ما لا نهاية، وهو ما يعد افتئات على حق المحتكم فى العودة إلى قاضيه الطبيعى، لأن ذلك يؤدي إلى تأبيد التحكيم وحرمان الشخص من الحماية القضائية إلى ما لا نهاية وهو ما يتنافى مع الطبيعة الاستثنائية لنظام التحكيم وما يتسم به من سرعة الفصل في المنازعات.٣- إن القول باللجوء الى التحكيم مرة اخرى استناداً إلى ذات اتفاق التحكيم سيؤدى الى نتيجة لا يمكن التسليم بها قانوناً، فمن المتصور أن يقضى ببطلان حكم التحكيم وتعود للتحكيم مرة ثانية بذات اتفاق التحكيم ويصدر حكم جديد يطعن عليه بالبطلان ويقضى ببطلانه مرة أخرى فنعود مرة ثالثة للتحكيم بذات الاتفاق ويصدر حكم جديد يطعن عليه بالبطلان ويقضى ببطلانه للمرة الثالثة وتعود للتحكيم من جديد وهكذا بحيث يظل المحتكمين فى حلقة مفرغة لن تنتهى ويصبح اتفاق التحكيم مؤبداً بالمخالفة للنظام العام فلا وجود قانونا للعقود المؤبدة. ٤- إن الطبيعة الاستثنائية للتحكيم توجب تفسير اتفاق التحكيم تفسيراً ضيقاً وعدم التوسع في إعمال اتفاق التحكيم وحصر استعماله مرة واحده، بحيث ينتهي أثر اتفاق التحكيم ويستنفذ العمل به بمجرد صدور الحكم من المحكم؛ وذلك لأن التحكيم طريق استثنائي للفصل في المنازعات يرد على خلاف الأصل العام يتضمن تنازلاً عن الإلتجاء إلى قضاء الدولة وأن الطبيعة الاستثنائية للتحكيم تستلزم أن يُفسر تفسيراً ضيقاً دون التوسع فيه شانه شأن كل إستثناء على القواعد العامة وكل خروج على الأوضاع العادية.٥- إن المره من ضروريات المأمور به وأن الأمر الْمُطلق یدل بوصفه وذاته على المرة ولا یحمل على التّکْرَار إلا بقرینة، ومن ثم فإن صيغة اتفاق التحكيم لاتقتضي التكرار إلى ما لا نهاية بتكرار اللجوء إلى محكمين أخرين.٦- إن القول باللجوء إلى التحكيم مرة أخرى أمام ذات المحكم استناداً إلى ذات اتفاق التحكيم يتعارض مع ما هو معلوم قانوناً من أنه بمجرد صدور حكم التحكيم تستنفد هيئة التحكيم سلطة الفصل في النزاع من جديد، بحيث يكون من غير الممكن للاطراف طرح النزاع على نفس الهيئة بعد القضاء ببطلان الحكم الصادر منها.
والله ولي الهداية والتوفيق،،،،

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.